ما بعد العتبة .. قراءة في المجلس العشرين
م. عمار الشاعر
20-09-2024 09:28 PM
شهدت الانتخاباتُ النيابية الأردنية لعام ٢٠٢٤ التي طال انتظارُها، حالة من الترقب السياسي والشعبي وسط تطلعاتٍ لتحقيق إصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ تعالج التحديات التي تواجه البلاد. جاءت هذه الانتخابات في ظل أجواءٍ داخليةٍ متقلبةٍ نتيجة الأوضاع الاقتصادية، وضغوطاتٍ إقليميةٍ ودولية، مما أضفى طابعاً خاصاً على نتائجها وأثار تساؤلات حول المستقبل السياسي في الأردن من بعدها. نجحت الدولة الأردنية بإدارتها نجاحاً باهراً واثبتت صدق نيتها في استعادة المصداقية والشفافية للعملية الديمقراطية. فأتت انتخابات ٢٠٢٤ كصرخةِ مخاضٍ لمولدِ حياةٍ حزبيةٍ ونيابيةٍ حقيقيةٍ ومشهدٍ سياسيٍّ أردنيٍّ جديد. على الرغم من المشككين واصحاب نظرية المؤامرة، أرى في هذه الانتخاباتِ بادرةً إيجابيةً، وأترقب نتائجها بشوق، متمنياً أن تكون سبباً في مشاركةٍ شعبيةٍ أكبر في الدورات المقبلة.
كانت إحدى أبرز الجوانب التي لفتت الأنظار في هذه الانتخابات هي نسبة المشاركة الشعبية المتدنية. فرغم حملات التوعية التي أطلقتها الحكومة والهيئة المستقلة للانتخاب، كانت نسبة الإقبال الشعبي أقل مما كان متوقعاً. مع أنها تخطت نسبة انتخابات ٢٠٢٠ إلا أنها ما زالت غير مرضية. خاصة في المدن الكبرى مثل العاصمة عمان والزرقاء. بينما سجلت المناطق الريفية والعشائرية نسب مشاركةٍ أعلى كالمعتاد، وهو ما يعكس استمرار الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية فيما يتعلق بالمشاركة السياسية. هذه النسبة المنخفضة للمشاركة في المدن الكبرى ما هي إلا انعكاسٌ لحالةٍ من عدم الرضا والإحباط لدى شريحةٍ كبيرةٍ من المواطنين، الذين لم يجدوا في العمليةِ الانتخابيةِ وسيلةً للتغيير الفعلي. بالإضافة لحالةٍ من اللامبالاة عند فئةٍ أُخرى تعتبر ان قضية الانتخاب بما فيها لا تعنيها. في المقابل، ظلت العشائر والمناطق الريفية أكثر ارتباطاً بالتقاليد الانتخابية التي تقوم على دعم المرشحين العشائريين.
احتفظت التيارات التقليدية والعشائرية بسيطرتها لا سيما في الدوائر الريفية، حيث تمكن المرشحون المدعومون من العشائر والتيارات المحافظة من تحقيق نتائج جيدة. بالمقابل، تراجعت التيارات اليسارية بشكلٍ ملحوظ. فلم ينجح أيٌّ من أحزابها بتخطي العتبة، مما أثار تساؤلاتٍ حول أسباب هذا التراجع. قد يكون السبب ضعف تنظيمهم الحزبي أو تفكك قِواهم الشبابية أو ربما قلة جاهزيتهم ودخولهم المتأخر إلى السباق الانتخابي. بعض المراقبين أشاروا إلى أن القانون الانتخابي الجديد قد يكون سبباً في إعاقة صعود الأحزاب الصغيرة. وعلى الرغم من تعددِ هذه الأسباب، فإن تراجع الأحزاب اليسارية لم يكن مفاجئاً بشكلٍ كبيرِ في هذه الدورةِ الانتخابية. فهذه الأحزاب تحتاج إلى إصلاحاتٍ جذريةٍ في أساليبها التنظيمية والتواصلية كي تتمكن من أن تكون قوةً مؤثرةً في الانتخاباتِ المستقبلية.
الجائزة الاولى في المفاجآتِ حازَ عليها حزب جبهة العمل الاسلامي بجدارة، حيث حصل على ٣١ مقعداً، منها ١٧ مقعداً عبر القوائم الحزبية و١٤ عبر القوائم المحلية. وأبرز انتصاراته كان في الدائرة الثانية في عمان، حيث حصد مقعداً على مسار التنافس بالإضافة لمقاعد الكوتا الثلاثة، بما فيها المقعد المسيحي، وهو ما أثارَ جدلاً واسعاً في الأوساطِ السياسيةِ والشعبية. فتمثيلُ حزبٍ إسلاميٍّ للمقعدِ المسيحيِّ يُعد أمراً غير مألوف، بغض النظر عن جودة التمثيل، نظراً للأبعادِ الاجتماعية والسياسية العميقة التي يحملها هذا الموضوع.
ما يخفف وطأة ذلك قد يكون تخطي المسيحيين عدد المقاعد التسعة المكفولة لهم بالقانون حيث نجحت النائب هدى نفاع من حزبِ عزم على المسار التنافسي متخطيةً الكوتا المسيحية والنسائية متجاوزةً بذلك كل التوقعات ومعلنةً اضافةَ مقعدٍ عاشرٍ لمقاعدِ النوابِ المسيحيين.
جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، من أقدم الأحزاب في الأردن وأكثرها تنظيماً بلا شك. يتجلى تنظيمهم بأبهى صورةٍ عندما تلاحظ توزيع أصواتِ قائمتهم في ثانية العاصمة، حيث يظهر أن مرشحي القائمة حصلوا على أعدادٍ متقاربةٍ من الأصوات. ما يشير إلى توجيهٍ دقيقٍ لجمهورِهم للتصويت للقائمة بأكملِها دون استثناء، وهو ما لم نره في القوائم الأخرى وكان السبب في فوزهم بجميع مقاعد الكوتا. هذا ولا يمكن تجاهل شعبيتهم الكبيرة في الشارع الأردني، خاصةً وأن موقفهم من القضية الفلسطينية ثابت لا يتغير. في المقابل، غاب هذا الثبات أو حتى الوضوح في الموقف السياسي للأحزاب الجديدة، خصوصاً بعد أحداث غزة، مما أثر سلباً على حملاتهم الانتخابية.
ثم جاء نجاح ما يعرف بأحزاب الوسط فحصدَ حزب الميثاقِ الوطني ٢١ مقعداً منهم ٤ على مستوى القوائم الحزبية بحسب إعلان الهيئة المستقلة للانتخاب ليعود الأمين العام للحزب د. محمد المومني ويعلن أنهم حازوا على ٣٠ مقعداً بعد اكتمال الاحصاء. وحصل حزب إرادة على ١٩ مقعداً منهم ٣ على مستوى القوائم الحزبية وحزب تقدم ٨ مقاعد منهم ٣ على مستوى القوائم الحزبية. أما باقي الاحزاب المتجاوزة العتبة وعددها ٨ أحزاب، حازوا على ما مجموعه ٢٠ مقعداً من ضمنهم ١٢ على مستوى القوائم الحزبية. هذه الأرقام تمنح ارتياحاً لمعارضي الاسلام السياسي، إذ إنَّ تحالفاً بسيطاً سيكون وزنه أكبر من وزن الجبهة في المجلس، إضافةً إلى أن حزب الميثاق الوطني يوازي بعدده عدد نواب الجبهة تقريباً.
على الرغمِ من مخاوف تصاعد دور المعارضة الإسلامية، يبدو أن التوازن السياسي لا يزال في صالح الأحزاب المؤيدة للسياسات القائمة. كل ما في الأمر أن اللعبة السياسية ومشروع التحديث أخذ جرعةً كبيرةً من الثقةِ والمصداقية، لم يكن ليحصلا عليها لو كان هنالك أي تدخل أو شكوك في نتائج الانتخابات. فإننا نرحب بنوابِ الجبهة ونمد يدنا لهم وندعوهم للعمل بشكلٍ تعاونيٍّ وبنّاء، بعيداً عن الايديولوجيات الضيقة، آملين أن يخدموا الجميعَ دون أن تطغى على تحركاتِهم وصايةٌ أخلاقيةٌ على المجتمعِ أو عدم تقبل الاخر كما يتوقع البعض.
سيتعين على حكومةِ جعفر حسان بناءُ علاقة تعاونٍ وثيقةٍ مع البرلمانِ لضمان تمرير التشريعات الضرورية، خاصةً فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية التي وعدت بها القيادة الأردنية. مجلس النواب القادم سيحتاج إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لتلبية توقعات المواطنين، لا سيما في مجالاتٍ مثل مكافحة الفساد، تحسين الخدمات، وتعزيز العدالة الاجتماعية. وبالتالي، ستتحمل الحكومةُ المُعينة والبرلمانُ المنتخبُ معاً مسؤوليةَ كسب تأييد الشارع وإعادة بناء الثقة في المنظومةِ السياسية والعملية الديمقراطية. بالإضافة إلى فتح المجال أمام الأحزاب والتيارات الجديدة للمشاركة في المشهد السياسي، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة، ورفعها إلى مستوىً يليق بالأردن الحديث.