هاجس الأمن ورغبة الإنفتاح
صبري الربيحات
18-09-2024 02:47 PM
قبل سنوات كان الاردن قبلة لابناء الاقطار العربية الباحثين عن الاستشفاء من ما الم بهم من ويلات الأمراض والجراح. كان السودانيون واليمنيون والليبيون يأتون الى الاردن بكثير من الامل والثقة بانهم سيجدون ما ينهي محنهم ويشفى الآمهم في بلد زادت المشافي والمراكز الطبية في بعض ارجاءه عن أي مكان اخر في العالم .
بنفس الروح والتوجه تدفق مئات الاف السواح من مختلف ارجاء الدنيا لدرجة اشعرتنا كم نحن بحاجة الى توفير المزيد من الغرف والأسرة والليالي الفندقية ونراجع مستوى مرافق الخدمات في المواقع وتدريب المزيد من الكوادر على فنون الاستقبال والخدمة والضيافة ..
المؤسف ان هذه البشائر الاقتصادية لم تدم طويلا ففي الاردن اصبح هناك اعتقاد ان لا شيء يدوم فقد كان العراق يمنحنا غالبية حاجتنا من النفط ولسنوات ظهرت المنحة الخليجية ثم ما لبثت ان غابت الى غير رجعة وكذلك السياحة العلاجية التي شكلت املا لمئات المراكز الطبية والمستشفيات ...لقد اصبح البعض متشائما ومهيئا لتقبل فكرة دوام الحال من المحال فمع كل بوابة رزق تفتح تلوح في الافق موانع وعقبات تؤدي إلى اغلاقها .تارة تكون الهواجس الامنية واجراءات ضبط الدخول والعمل على حماية الاستقرار ...وتارة تغير وتبدل اتجاهات الناس واخرى تتعلق بما يحدث في الاقليم والعالم.
اليوم هجر العشرات من كبار الاطباء مراكزهم الصحية واغلقت عشرات الفنادق والنزل واصبح شارع الخالدي الذي صنف الاكثر اكتظاظا في العيادات خاويا الا من بعض الذين تجاوزوا العقبات واتوا بالرغم من ما عليهم اجتيازه من خطوات وشعرت كليات الطب بان عليها تقليص اعداد المقبولين لكي لا تتدهور دخول من لا يزالوا يمارسوا المهنة خارج المؤسسات الصحية الرسمية والاهلية ..
لكل هذا اسبابه العالمية واخرى تتعلق بتغليب تفكيرنا الامني على الابعاد الاقتصادية الاجتماعية الصحية وعلى الدور والسمعة التي يمكن ان يحققهما الاردن على الصعيدين العربي والدولي .
لا أحد يريد للاردن ان يخترق امنيا - لا سمح الله - لكن المبالغة في التشديد واللجوء الى الايقاف والمنع كاما ظهر لدينا بعض المخاوف قرارات ربما تحتاج إلى تقييم في إطار بدائل قد تيسر فرص عمل كبيرة واسعة لقطاعات تحتاج لها .
يخلط البعض كثيرا بين مفهومي السير نحو المستقبل بتوازن ومفهوم الاستقرار بمعنى الثبات او المحافظة على الموجود والتعلق بما جرى تجريبه ويجد البعض سهولة في إستخدام مفهوم الاستقرار للدلالة على وضع مرغوب وآمن فيه مستويات اقل من الخوف والقلق والتوتر . وعليه فإن مفهوم الاستقرار كما يستخدمه الكثيرين يتناول حالة الثبات والجمود واللاتغير .
على اهمية الاستقرار بمعنى استبعاد الاخطار الا ان هذا التصور يحمل اشكاليات عديدة اذا ما اقتصر على هذا الفهم الضيق . فنحن نعرف تماما ان التغير حقيقة ثابتة وسنة كونية ولا يمكن تجنبها مهما حاولنا "فلا احد يختبيء من درب الاعمار " . الأحياء تتغير بفعل الاخصاب والنموذج والتطور وتتخذ دورة حياة قد
تطول او تقصر فهي دائمة التغير كذلك الجماد او المواد غير الحية تتغير هي الاخرى. صحيح ان القوانين ترشدنا بانها لا تفنى لكنها تتبدل من حالة الى اخرى فقد تظهر سائلة او صلبة وقد تتحول إلى غازية وبالعكس كل ذلك بفعل عوامل وأسباب تؤثر على وضعها وتكون سببا في تبدلها .
في السياسة يكتسب مفهوم الاستقرار اهمية كبرى لدى الانظمة المحافظة ويتناوله الساسة والاعلاميون برومانسية عالية بحيث يجري الحديث عن الاستقرار او الثبات باعتباره غاية وإنجاز لا يضاهى .للكثير من هؤلاء يأتي الاحتفاء بالاستقرار من افتراض ان النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي يعيش في بيئة معادية تود ان تعمل على تقويضه والنيل منه والتسبب في انهيار اركانه. لذا فالاختبار بالنسبة لهؤلاء يعني نجاة النظام من الأخطار والتهديدات والمؤامرات التي تحاك للاطاحة به . وبالاستناد الى هذه الافتراضات فإن الاستقرار يعني الرتابة ودوام الحال و العيش في بيئة تتسم بغياب التهديدات التي تعمل على تقويض اسس وأركان الحالة القائمة .
على اهمية الاستقرار الذي يتحدث عنه الكثيرين باعتباره هدفا فرديا ومؤسسيا ووطنيا قد يتناسى هؤلاء ان التغير والتبدل سنة كونية وان الافراد والمجتمعات والنظم تحتاج إلى الديناميكية والحركة والنمو من اجل التكيف مع التغيرات والتحولات التي تسير بسرعة يصعب في كثير من الاحيان قياسها . فالمجتمعات الحية تبادر وتتفاعل وتتفاوض وتشبك وتنتج ولا تبقى على رصيف الانتظار .
من هنا فإن الاصرار على الاستقرار واستخدام اساليب الانكار او القمع او الاستبعاد لكل ما يمكن ان يستثير النظم ويحفزها للاستجابة والتكيف هو شكل من أشكال التحنيط والجمود الذي لا يمكن الا ان يقود لتحجر المجتمعات وفقدانها لخواص المرونة والاشتباك والمبادرة والاستجابة والتكيف الذي تحتاج له لضمان بقاءها واستمرار وجودها .
انغلاق المجتمعات على نفسها والرفض الذي يبديه من يملكون السلطة والتاثير لقبول الفكر الجديد والطروحات التي لا تتماشى مع ايدلوجياتهم اتجاهات لا تخدم بقاء المجتمعات ولا تسعفها في ان تجد لنفسها مكانا في تيار الحضارة والتقدم الانساني .
التمترس وراء افتراضات تقليدية واستخدام القوة للمنع والردع والقمع وفرض الراي الاحادي على مجتمع تعددي عوامل تهديد للاستقرار بمعناه الديناميكي ووصفة لفناء المجتمع اكثر مما هي وسائل لحمايتة من التهديدات والاخطار .
برامج المبادرات والابداع التي نشجع الشباب والشابات على اطلاقها وندعو الشركات والمؤسسات الى تبنيها ودعمها نموذج ينبغي أن تقتدي به المؤسسات التي تضع السياسات وتراقب الأفكار والايدلوجيات وتصطفي من يديرون شؤون البلاد ويتولون التخطيط والتشريع والتنفيذ فيها.
الحديث عن التفكير خارج الصندوق يعني ان تفكر الدولة هي الاخرى خارج الصندوق وتخلق فضاءات رحبة للتفكير والتجريب وادارة المؤسسات بدلا من اعادة انتاج اساليب ثبت قصورها وقلة فعاليتها.
لا شيء يمنع ان يمنح الحكام الإداريين سلطات واسعة في التخطيط وتصميم البرامج لادارة دفة التنمية في المحافظات حسب امكاناتها ومواردها ولا اظن ان جامعاتنا التي تضخ فيها الأسر الاردنية نصف دخلها ستتردد في إجراء الدراسات التي تعالج كل المشكلات واقتراح لها الحلول لو جرى توجيهها في هذا الاتجاه .
علينا التفكير جيدا في اعادة ترتيب اولوياتنا والعمل على تغليب الدور التنموي للحكام الاداريين على الدور الأمني الذي يحتل جل وقت المحافظ والمتصرف . كما علينا التفكير في تغيير الصورة للكثير من الممارسات التي نقوم بها لتحقيق مستويات افضل من الرفاه والسعاده لانساننا والاستقرار المستدام لمجتمعنا ومؤسساته.