لست ممن يتبنون مفهوم " العرس الديمقراطي" بحيث تظهر فيه الديمقراطية كحالة موسمية تأتي كل أربع سنوات ثم تغادرنا إلى سبات عميق، الديمقراطية بالرغم من كثيرٍ من التحفظات عليها، فمن خلالها يمكن للأغبياء أو الفاجرين أو المتطرفين أو الجاهلين أن يحظوا بالسلطة ومقاعد النواب في حال حصلوا على ( 50 + 1 ) أي 51% كافية لأية فئات أن تتبوأ المشهد وبصورة ديمقراطية، لنضرب مثالاً فنقول هناك 11 شخصاً يريدون انتخاب رئيس لهم، ترشّح غبي جاهل وآخر ذكي عاقل، عند التصويت صوّت 6 أشخاص للغبي الجاهل ليفوز بالمنصب وديمقراطية.
لم يثبت حتى تاريخه فعالية وجدوى لأية اجتهادات نظرية يمكن للمجتمعات أن تمارسها من أجل الاختيار، كما أثبتتها التجربة والحالة الديمقراطية، فهي ما زالت الأداة العملية والمعقولة التي يمكن الانتقاء والاصطفاء للأفراد والأحزاب والسياسات وأية مصالح اجتماعية، ودائماً تتطور الحالة الديمقراطية مع الممارسة لها لا أن يتم التنظير عليها أو لأجلها دون أن نخوض غمارها.
يبدو المشهد الأردني من الناحية الديمقراطية يتفاوت بين مدٍّ وجزرٍ تبعاً لظروف وسياقات المرحلة الجيوسياسية، حيث أن ما بين عام عودة الحياة السياسية في الأردن في سنة 1989 وما بين عام 2024، فهناك قراءات مختلفة تصل إلى حد التناقض في درجة وتطور الممارسة الديمقراطية، لكن المشهد النيابي مهما تعددت آلياته وطرق الوصول للمجلس وما تدعى بهندسة العملية الانتخابية، سواء عبر قوانين مؤقتة وخاصة قانون الصوت الواحد وتقسيم الدوائر الانتخابية والحجم النسبي للمقاعد، فهو مشهد شابه الكثير من الملاحظات والصراعات، فكانت ثلاثين عاماً وأكثر من عمر المجلس الحادي عشر وصولاً إلى المجلس التاسع عشر المنتهية ولايته، كان فيها الحضور للنائب الفرد، مما هيأ الأرضية والخلفية لبروز نجوم أفراد على شاكلة " ون مان شو" وساعد في تعزيز هذه الفردية قوانين الانتخاب المؤقتة وخاصة " قانون الصوت الواحد" الذي حمّل الفرد مسؤولية ترويج نفسه وتمويل حملته ولجوئه لما سميت بالقواعد الانتخابية، فظهرت دوائر انتخابية فرعية تكاد تكون مغلقة نتيجة ما يسمى "بالإجماع" وكان النائب يمارس قناعاته الشخصية وربما أهوائه وطموحاته دون وجود أية مرجعية ناظمة لعمله النيابي، وأثناء تلك الفترة الممتدة، ظهر مصطلح " نائب الخدمات" الذي حدّ من صلاحيات النائب ليصبح بمستوى نائب بلدية أو قرية، همّه الرئيس شق طريق أو علاج مريض أو تعيين موظف بسيط أو تنظيف أحياء أو إيصال الكهرباء أو المياه لمواطن هنا ومواطن هناك، وترتب على ذلك تمدد الأنا النيابية على حساب الجموع وعلى حساب المصلحة العامة لتضيق إلى مستويات فردية أشغلت النائب بدائرة فرعية ومهام محدودة جداً.
وأصبح السائد هو أن النائب الأكثر شعبية ذلك الأقدر على الوصول للخدمة وتقديمها، وليس للنائب المشرّع العميق في الفهم القانوني والرقابي الذي يتجلى بطبيعة دور النواب المتمثل في التشريع والرقابة على صون القوانين وإنفاذها ومساءلة السلطة التنفيذية على أعمالها. حتى وصل الأمر إلى أن كادت ملامح الدور النيابي تختفي تماماً في مشهد غاية في الحزن عندما أصبح النائب همّه الأساس هو مقابلة هذا الوزير وذاك المسؤول حاملاً ملفات ذات هموم لمواطنين، وناسياً أو متجاهلاً لدوره النيابي الحقيقي.
الآن ورغم كل ما يقال عن الدورة العشرين للمجلس النيابي، فهي دورة مفصلية تكاد تعيد بناء المشهد النيابي بالكامل، من حيث آليات الانتخاب، دخول الأحزاب، شفافية التصويت والاقتراع والفرز، ومع الكثير مما يقال عن تواضع هذا الحزب أو ذاك، إلا أن الحالة الديمقراطية ليس لها أن تتطور وتترسخ دون مثل هذه البدايات. ربما لن تختفي التحالفات في آخر لحظة، ربما سيبقى مجال للنائب النجم، لنائب الخدمات، لكنه سيظهر بشكل محدود، مع إتاحة الفرصة لتكريس فهم وعمل نيابي يستند إلى الجموع والحزبية.
رغم كل الظروف المحيطة بنا، رغم فظاعة العدوان الجاري منذ 11 شهراً على غزّة الجريحة الذبيحة، رغم كل المضايقات والتضييقات، فإننا نتمنى أن نظهر بمظهر ديمقراطي احترافي يعبّر عن إرادة جمعية شعبياً ورسمياً. ( الأردن ينتخب ) يعني أن الأردن يحيا ويتطور ويبحث عن مساحة من الحرية في الفضاء الإنساني.