كما هي الجبال شامخة هم أهل المكان وساكنيه.. على قمة رأس النقب كانت إستراحتنا بعد ثلاثة ساعات من القيادة على التل المقابل لمقصدنا في الأفق " مطل مصبع عنيزان " الموازي لنا بالإرتفاع ولا يفصلنا عنه سوا أرض البياض التي أقام بها جدنا العربي النبطي الملك الحارث 87 – 62 ق.م مدينة حوراء " افارا" بوحي من الآلهة التي عرفت بإسم الحميمة ومنها انطلقت الدولة العباسية، وقد تحدثنا عنه سابقا بمقالنا (درب شريان الحياة إلى افارا ).

لنكمل قيادتنا إلى مضافة أبو صباح المناجعة بيت الخير والكرم بالعباسية وبعد القهوة وطيب الحديث وتناول لبن النوق مع الشاي أخذنا طريقنا الترابي برفقة ابنه أبو عيد نحو الشمال الغربي مرورا بمدخل شق العجوز واجتياز شعاب وادي حلوة الذي يصب بوادي احيمر الشريان الرئيسي لوادي رحمة وهو يُسمّي لنا كل مكان بإسمه المتوارث الواجب توثيقة وصولا إلى بلدة الثغرة ومنها نحو الجبال المحاذية إليها صعودا نحو خربة الزبلية.

خربة الزبلية
وبها كانت استراحتنا الأولى ولم يشغلنا فنجان القهوة عن التعرف على ما في المكان من آبار تاريخية نقبت بالصخر الأصم وما حولها من أطلال وأسوار استنادية ودفاعية أحيطت بأماكن السكن وقد تبقّى منها القواعد وبيادر قمح وشعير جفت بعد موسم صيف اتسم بارتفاع درجات حرارته منها ما قد مهد من سالف الزمان ومن غير المستبعد من أن يكون نبطي الأصل، فلولا رفيقنا أبو عيد لم نهتدي إليها كونها غير معرّفة على الخرائط وتتوارى بحضن الطود أماكن لتخزين المحاصيل المعروفة باسم " الصير" وهي مُغر أغلقت بحجارة وطين إلا من فتحة صغيرة كالنافذة موضحا لنا الفرق ما بين صير التبن وصير المئون والقمح الذي يتطلب أن يكون ذو أرضية صخرية خالي من الرطوبة تماما أو أي فتحة قد تتسلل منها القوارض لمخزون السمن والجميد والجبن، أما الوادي المحاذي فيحمل إسم الخربة أيضا المؤدّي بشعابه إلى بلدة الثغرة وقد كان يوما من ضمن مسارنا الذي ابتدأ من قرى النعيمات شمالا حين كنا نتدرب على صعود الجبال تجهيزا لمسار مناسلوا ضمن جبال الهاملايا 2022 م.

استكملنا طريقنا صعودا بجيولوجيا غابت عنها الأشجار إلا من نباتات البادية مع أنها تكتنز خضرة بفصل الربيع، وعند مطل آخر أشار لنا رفيقنا من هناك إلى موقع شجرة زيتون معمرة وحيدة بين هذه الجبال أخذنا إحداثياتها لنزورها قريبا والبحث عن قصتها، ولموقع الفزير المقابل لنا بالطرف الآخر حكاية شعبية أن الإسم جاء من اختصار لالف زير بمعنى جرار مليئة بالذهب قد دفنت فيه، كما أن هناك عشيرة تحمل ذات الإسم " الفزير" والتي يعود نسبها إلى العوازم بجزيرة العرب.

مطل " مصبع عنيزان"
وبعد اجتياز أطلال مبنى قديم كان قد أقيم على رأس تلة بعد النقب الأصفر وصلنا لغايتنا التي طالما حدثنا عنها أبو صباح بضرورة زيارتها فهي قمة مشرفة على كامل المكان من جبال البتراء والراجف شمالا إلى القويرة وما بعدها حتى مشارف جبال العقبة جنوبا، وفي جهة الغرب النقب في فلسطين وما بيننا من وادي عربة وما قد سِرنا فيه من وادي النخيلة الملون ورماله الذهبية عند ملتقى وادي احيمر ورفيقنا يشير إلى كل موقع وما حوله من العيون منها العين الذي استقينا من مائها يوما بجانب طور الخوية بعد ودي ( مصغر وادي ) الحمض.

واستمر المسير للقمة حيث كنا على موعد من الدهشة برفقة أبو عيد وقد نصب لنا بيتا عربيا أشعلت النار في منتصفه تحت دلال القهوة الرسلانية مجهزا ما طاب من الضيافة خير ما توصف بالحاتمية عمل عليها إخوتة دون أن نعلم مهتمين بأدق التفاصيل وخير الطيب طيب الذكر والنفس والقلب وهو من شيم أهل الفلاح والنخوة، وما أن مالت شمس العصر تحرك الهواء ولعب بالبيت طاغيا على الجو شعور الخدر بعد تعب الطريق الذي زال بترحال مضيفينا ومفاجئة القمة.
و لليل حديث وسمر من طيب البادية والمكان وما فيه من أسرار ما كان بشعاب الأرض وبالسماء المتزامن مع نجم سهيل الذي استشرق لنا من الجنوب وبه يستبشر بموسم المطر وانقضاء حر الصيف وبداية قُصر النهار ويقول لنا مضيفنا نصار المناجعة أن لسهيل أربع منازل تبدأ بالطرفة 13 يوم وفيه يعتدل الحر وتنصرف الحرارة، تليها الجبهة بنفس المدة وبها تزداد برودة آخر الليل ويقول المثل "إذا طلع سهيل يبرد الليل" ثم الزبرة وبها تشتد البرودة بما مجموعة منازلة 52 يوم، كما يعتد به بمسير الصحراء بالأيام الصافية.

جمال الفجر والغروب
وما أن لاح الفجر حتى رافقنا الندى واستبقنا نوره المنسل عبر جبال رأس النقب الموازي لنا شرقا فوق عين القناة والشنارية وجبال رم وفي الأفق البعيد بردى وأم عشرين وهبيرة، بمشهد بنورامي مشرف على كامل المكان من ارتفاع 1460 متر بفارق 450 متر عن نقطة البداية، ولا تقل هذه السويعات جمالا عن وقت الغروب وكيف تتناغم الشمس مع تعدد ألوان الطبيعة ما بين الأصفر شرقا والأبيض متوسطين للكرميدي بين الشمال والجنوب ضمن سلسلة جبال الشراة ورمال الذهب بوادي عربا ووادي رم.

وبعد تناول وجبة الإفطار وحزم أمتعتنا أبوا إلا أن يعيدونا بسياراتهم لنقطة البداية التي بها نتمم المسير والبالغ 26 كلم والذي يمكن أن يقسم إلى جزئين صعودا بسيارة رباعية الدفع يؤمنها أهل المكان مع الخيام وخدمة المبيت والعودة نزولا سيرا على الأقدام لنقطة البداية في العباسية، بمطل لا يقال عنه إلا إنه من أجمل مطلات الجنوب بإشرافه المتعدد الوجهات وأفقه البعيد وبرفقة حاتمية عز نظيرها من أهل المكان.