من الصعب ان اتخيل الاردن بلا أهله وبناته ورجالاته الأوائل. فهم من اكسبوا الارض روحها وبهجتها وجمالها. ولا يمكن ان استرجع الصورة الذهنية التي تشكلت لدي عن الكرك واهلها دون ان يظهر فيه مئات الشخصيات الكركية الوازنة التي تركت بصماتها على جدران قلوبنا وارواحنا. ونحن نتذكر حسين الطراونة وساهر المعايطة وحابس المجالي نتوقف عند شخصيات مسيحية كركية اخذت اسم الاردن والكرك بعيدا وطبعت بصماتها على قلوبنا وثقافتنا واسهمت ايما اسهام في تشكيل هوية المكان وروحه وسماحته.
الشخصيات التي اتحدث عنها هم اوائل الاطباء والقضاة والادباء واهل القلم الذين تربوا في ادر والربة والسماكية وحمود ولامست انجازاتهم كل جوانب حياتنا. عودة القسوس ويعقوب العودات ونزيه الزريقات وصالح برقان ويوسف القسوس وحران الزريقات وموسى حجازين نماذج من الشخصيات التي تجاوز اثر حضورها حدود الزمان والمكان.
يقلقني كثيرا ان ارى اجتماعا او حشدا او اسمع حديثا لا يأخذنا جميعا بعين الاعتبار مسلمين ومسيحيين شرقيين وغربيين، شماليين وجنوبيين، صغار وكبار ،رجالا ونساء ،بدوا وحضر، اغنياء وفقراء.
هذا القول والاحساس لا يخصني وحدي بل يشمل غالبية الأردنيين أينما كانوا واينما حلوا. صباح هذا اليوم هاتفني صديق لي وسألني عن رأيي في بعض المسائل التي تجري في البلاد على هامش الانتخابات وعن تطوع بعض المرشحين لقطع وعودا بأنه سيزرع البلاد مصانع جديدة وسيحل مشكلة البطالة وينهض بالثقافة ويقوم بكذا وكذا...
اطرقت للحظة وقلت لصاحبي الذي احترم" حط بالخرج" . مشكلتنا الأولى بدأت عندما ادخل هؤلاء الاشخاص او أقحموا في مؤسساتنا وسهل لهم السير في الخط السريع الذي مكنهم ان يستبيحوا كل المواقع المهمة بلا خبرة او دراية ولا يزالوا يحظون بمستويات دعم لا يعلمها الا الله.
لقد سألني صاحبي عن ما يمكن ان اقوله في هذه الاوقات الفاصلة فقلت له يا اخي هذا المجتمع راسخ وعصي على التشويه فقد نسج على أيدي اجداد مهرة ،كانوا كبارا في فكرهم وفلسفتهم وحبهم وحكمتهم . في هذا البلد العظيم عاش المسلم والمسيحي أخوة لا مثيل لها فكان يعقوب العودات المسيحي الكركي يعرف تراث البادية وأخلاق العرب وتأثير العقيدة وقوة التراث كمصدر لبناء الشخصية حتى وهو يطوف مدن الشرق العربي .
نعم لقد كان البدوي الملثم الذي مر على ولادته قرن وربع القرن ايقونة للشخصية الاردنية التي كان مثلها وسفيرها وروحها ورحيقها...
قبل اكثر من عشرة اعوام دعاني الاهل في بلدة حمود في الكرك لاكون معهم في احتفال ما بعد مئوية يعقوب العودات وقد أحسست اني في أرقى الفضاءات التي يعيش فيها سادة العرب .لقد أحببت التنظيم والترتيب والأحاديث الوطنية والنظافة وشعرت ان كل واحد من الجمع يمثلني وانا وزير ثقافة الاردن انذاك.
قلت لصاحبي ان صديقي واستاذي المرحوم كامل ابو جابر قد روى لي فصول عن حكمة والده الشيخ صالح ابو جابر الذي كان احد كبار الفلاحين او الملاكين في سهول اليادودة الممتدة نحو مادبا وكيف انه ادرك حاجات الناس وكان عنوانا وبيت جود على الطريق المؤدي جنوبا يستضيف وأبناء عمومته الخطار ويجمع المحصول ويعطي كل من يحتاج ولا يملك.
في الطفيلة كان لدينا مروج وسفوح نسميها بكروم النصارى وكان سليم عيال عواد " ابن النصرانية" افضل مزارع في القرية واكثر الناس عملا واجتهادا وانتاجا.
وكما كان يعقوب العودات كان عودة القسوس المثقف الكركي الذي دخل الادارة الاردنية بعدما تلقى تعليمه في القدس وترك أثرا جعله ويعقوب العودات رواس وقواعد مهمة منحت للثقافة الاردنية انطلاقة وروح يصعب الإحاطة باثارها ...
في مراحل دراستنا الاعدادية يوم كان قضاء الطفيلة تابعا للواء الكرك كان خازر الهلسة موجها للرياضة والرائد الأول للحركة الكشفية . كانت اطلالته تبهجنا اكثر من كل المفتشين وكنا نشعر بوهج دافعيته للعمل حتى ونحن لا زلنا صغارا.
واخيرا لا زلت اذكر ان احد اهم الاشخاص الذين زينوا لي فكرة الجندية ولباسها كان كركيا مسيحيا. ففي عام ١٩٦٨ كانت القوات المسلحة ترسل ضباطها لزيارة المدارس لتجنيد التلاميذ في الأسلحة المختلفة وكانوا يقابلوننا في متاجر القرية وياخذوا من تستميله الإغراءات التي تقدمها الوحدات العسكرية مباشرة الى المعسكرات.
أذكر ذات يوم ان المقدم عدنان مدانات كان قد جلس على كرسي في متجر محسن الحراسيس واخذ يقابلنا نحن ابناء القرية ويشرح لنا عن مزايا الجندية والتجنيد وخدمة الوطن ..لقد ازهى اللباس العسكري في عيوني وكنت على وشك ان اقول نعم للجندية فقد أحببت اشراقة الرجل واحببت الرتب الكتانية التي جملت اكتافه...
اليوم وغدا وبعد لا أرى اجمل من حالة التنوع التي يعيشها الاردن ولا أغنى من هذا الود والإخاء والاحترام والمحبة ....تحية لكل اردني ايا كان دعاءه وصلاته ومقامه فكلنا ابناء هذا الوطن ومخلوقات للرب نحب الارض والوطن ونحترم تنوعنا ونكرم بعضنا ......