التقينا دون موعد.. معالي الدكتور شبيب العماري وأنا في إحدى ديوانيات العزاء لأداء الواجب نحو صديق مشترك رحل إلى جوار الباري عز وجل.. وساقنا الحديث إلى استعراض ذكريات أيام زمان حين كنا عضوين في لجنة أوكلت لها مهمة صياغة ميثاق وطني ينتظم التيارات والأحزاب والرؤى الوسطية في الأردن في حزب واحد عريض بحيث يغدو بمثابة قاسم مشترك أعظم يجمع التوجهات الوسطية ويعالج مظاهر التشتت والفرقة وحالة التشرذم التي تسود أحزاب الوسط! واستعرضنا مراحل الشد والجذب التي سادت آنذاك بشأن الاشتراك في اللجنة المذكورة والمساهمة في صياغة الميثاق المنشود. وهذه اللجنة وذاك الميثاق لهما قصة لا تخلو من الطرافة والحوار المستفيض وهاكم تفاصيلها!!
كان ذلك في الثمانينات من القرن الماضي حين هاتفني معالي المرحوم عبدالهادي المجالي أمين عام حزب العهد طيب الله ثراه والذي أكن له كل الاحترام والتقدير وقال: أخي أبا سليمان أنا خارج للتو من اجتماع موسع عقدته لجنة السبعين برئاسة دولة المرحوم الدكتور عبدالسلام المجالي طيب الله ثراه واتخذت خلاله عدة قرارات لعل من أبرزها صياغة ميثاق وطني ينتظم الأحزاب والرؤى والتيارات الوسطية على الساحة الأردنية في حزب واحد عريض كترجمة لدعوة جلالة الراحل الكبير الملك الحسين طيب الله ثراه والذي كان يؤكد دوماً على ضرورة تقليص عدد الأحزاب في الأردن بحيث لا تتعدى من حيث العدد ثلاثة أو أربعة أحزاب تمثل اليمين والوسط واليسار لأن الزحام يعيق الحركة الحزبية ولا يحقق الغرض المنشود تجاه الوطن والناس..
وأضاف المهندس المجالي يقول إن لجنة السبعين (والمؤلفة من سبعين شخصية مرموقة والتي قامت في الأصل من أجل توحيد أحزاب الوسط) قد أوصت بتشكيل لجنة لصياغة ميثاق وطني موحد ينضوي تحت لوائه كافة أحزاب الوسط.. ووقع اختيار لجنة السبعين على عدد من الشخيصات الوازنة للقيام بتلك المهمة الوطنية وهم مع حفظ الألقاب: معالي الأستاذ مروان دودين ومعالي الدكتور شبيب العماري والأستاذ عبدالسلام الطراونة والمهندس هاني ناصر والأستاذ فاروق عارف العارف.. وينوي الدكتور عبدالسلام المجالي الالتقاء معكم غداً لبحث التفاصيل المتعلقة ببلورة الميثاق المنشود.. فهل أبلغه موافقتك والمشاركة في لجنة الصياغة.. وبالمناسبة فقد هاتفت الدكتور شبيب قبل قليل وتحدثنا في نفس الموضوع.. وأخذت طرف الحديث وقلت للمهندس المجالي أنت تعرف يا أبا سهل مكانة دولة الدكتور عبدالسلام المجالي المرموقة في قلبي ووجداني الأمر الذي يستحيل معه أن أرفض له طلباً ولكن هناك جملة من الأسباب تحول دون تنفيذ المهمة بالصورة التي يبتغيها وأتمنى أن تنقل وجهة نظري إلى دولته، فأنا أولاً لست منتمياً لأي حزب من أحزاب الوسط التي أحترمها وأقدرها جميعاً كأحزاب وكشخوص وقامات وطنية تسعى لخدمة وطننا العزيز، أما الثاني فهو أنني مع مجموعة من الرفاق والأصدقاء تحدونا الرغبة لتشكيل حزب قومي اما الثالث فهو أنني أخشى بأن أسبب لكم ولي الحرج من حيث مشاركتي في اللجنة إذ ربما يشكل ذلك رفعاً لمنسوب الانتماء القومي بحيث يغدو معادلاً للانتماء الوطني إن لم يكن أكثر في بنيان وصيغة الميثاق، ولا أذيع سراً إذا قلت بأن صديقي الدكتور شبيب العماري وهو الأردني الوطني الأصيل يحمل في إهابه أفكاراً قومية عريقة الأمر الذي من شأنه أن يجعل منسوب الانتماء القومي عالي الوتيرة، وسيجعل الأمر صعباً لكم ولنا ولأعمال اللجنة المكلفة بصياغة ميثاق وطني لأحزاب الوسط!
حاصله.. التقينا في اليوم التالي مع دولة الدكتور عبدالسلام المجالي طيب الله ثراه وكان تركيزه ينصب على الهم الوطني أولاً وثانياً وثالثاً ومن ثم الانتماء القومي وبنسبة تكاد تكون رمزية، وترك دولته الباب موارباً لأي اجتهاد أو طروحات أو مفاصل قومية خلال صياغة الميثاق، وقال إن أهم ما في الأمر هو طرح أفكار ومبادئ وطنية تتعلق بالشأن والهم الأردني وتلقى قبولاً وموافقة من قبل كافة أحزاب وتيارات الوسط ليصار إلى الانضواء تحت سقف حزب وسطي واحد ينتظم جميع تيارات الوسط.. وقال على أية حال أن لجنة السبعين سوف تناقش الصيغة النهائية التي تتوصلون إليها في وقت لاحق! وذكرت لدولته بأن جهدي سوف يكون منصباً على الجانب الصحفي الذي يؤرخ لمرحلة من الحياة الحزبية وبالتحديد لأحزاب الوسط.
وعقدت اللجنة المكلفة بصياغة الميثاق اجتماعها الأول في نادي الملك الحسين بجبل عمان وانتخبنا معالي الأستاذ مروان دودين طيب الله ثراه رئيساً للجنة وشرعت اللجنة في إجراء الاتصالات والمشاورات مع معظم الرموز القيادية والشخصيات الفاعلة في أحزاب الوسط.. وبعد اجتماعات متواصلة ولقاءات عديدة تمكنت اللجنة من بلورة ميثاق وطني يتضمن جملة من المبادئ والأفكار والرؤى التي شكلت في مجموعها أساساً متيناً لا بل قاسماً مشتركاً أعظم لمجمل المبادئ التي تسير على هديها أحزاب الوسط وتحظى باهتمام كافة أطرافه.
ويقتضي الإنصاف القول بأن رئيس اللجنة معالي المرحوم مروان دودين وهو الوطني الأصيل والقومي الصادق كان حكيماً ولبقاً وذكياً في الطرح والتعامل بحيث مرر لنا نحن الثلاثة الدكتور شبيب وأنا والمهندس هاني ناصر جملة من المبادئ والأفكار والمفاصل ذات الطابع القومي الصارخ وكان معاليه يشكل حلقة وصل أمينة ومتوازنة وصادقة في إنجاز مهمة الميثاق الوطني لأحزاب الوسط الأردنية بسير وكفاءة وفاعلية.
وقمنا بتسليم مسودة الميثاق المذكور إلى دولة الدكتور عبدالسلام المجالي والذي عرضه بدوره على لجنة السبعين خلال جلسة خاصة وبحضور نائبه دولة المرحوم الدكتور فايز الطراونة طيب الله ثراه.. وأسر لي أمين عام حزب العهد المهندس عبدالهادي المجالي طيب الله ثراه ببعض ما دار خلال الجلسة حيث سمع الدكتور فايز الطراونة وهو يقول للدكتور عبدالسلام المجالي بأنه يلمح "تكنولوجيا" قومية الطابع واضحة المعالم في ثنايا بنود الميثاق وقال مازحاً: والله يا دكتور عبدالسلام ظننت للوهلة الأولى أن الميثاق يتعلق بتوحيد أطراف أحد أحزاب التيار القومي وليس أحزاب الوسط لأن المنسوب القومي صارخ جداً وأعلى بكثير من المنسوب الوطني الأردني!! وقال مازحاً مرة أخرى أن هذه التكنولوجيا مصدرها من العزيزين شبيب وعبدالسلام!!
ونتيجة النقاش المستفيض داخل لجنة السبعين وتدارس المبادئ والأفكار التي احتوتها مسودة الميثاق فقد تقرر إعادة الميثاق إلى لجنة الصياغة لأجراء بعض التعديلات التي تصب في خانة المنسوب الوطني الأردني.. وبالفعل تم إجراء بعض التعديلات التي نقلت المنسوب القومي بالنسبة للمنسوب الوطني من مرتبة (ممتاز) إلى مرتبة (جيد جداً) وتم التوصل إلى صيغة نهائية توائم بين الهموم والتطلعات والآمال الوطنية الأردنية والهموم والتطلعات والآمال القومية والتي تتطابق معها من منطلق أن الأردن ومنذ تأسيسه منذور لأمته العربية وقضاياها المصيرية.
وبعد وضع اللمسات النهائية والتعديلات المطلوبة قام معالي الأستاذ مروان دودين طيب الله ثراه بتسليم مسودة الميثاق الوطني إلى دولة الرئيس المجالي طيب الله ثراه.. وعلمت فيما بعد أن الميثاق على أهميته من حيث لم شمل الأحزاب الوسطية بأكملها قد بقي حبيس الحفظ في الأدراج لعدة أسباب منها عقدة (الأنا) والمصالح الشخصية وحالة التشرذم التي تسود أوساط أحزاب الوسط والتي اتخذت أنماطاً أيديولوجية عديدة وتسميات من مثل يسار الوسط.. ويمين الوسط.. ووسط الوسط.. الأمر الذي من شأنه أن حال دون توحيد أحزاب الوسط!! وظل الميثاق محفوظاً في الإدراج حتى يومنا هذا!!
وفي الختام أقول لا يظنن أحد بأن حال أحزاب اليمين واليسار والتيار القومي بأحسن حال من أحزاب الوسط.. فالحال واحد والتشرذم والفرقة تسود الجميع.. ولا حاجة للتفصيل لأن هذا قد أضحى أمراً بدهياً!! ولعل كثرة الأحزاب على الساحة الأردنية رغم أن مبادئ وأفكار وطروحات أغلبها متطابقة خير دليل على ما أقول.
وقد بدت أعراض وإفرازات ضعف معظم الأحزاب من خلال الانتخابات النيابية التي تجري حالياً في بلدنا العزيز، حيث لجأ البعض إلى مسعى لا تخطئ دلالته البصيرة من حيث أن عين المرشح اليمنى تستنجد بالحزب لإيصاله إلى قبة البرلمان في العبدلي والعين الثانية على العشيرة لكي تسرع في إيصاله إلى القبة إياها!!
ونرى البعض يضرب غمازاً إلى اليسار لكن اتجاه سيره يشير إلى اليمين!! فيما نرى البعض الآخر يضرب غمازاً إلى اليمين لكن خط سيره الفعلي يشير في المآل النهائي إلى اليسار!!
ونرى بعض الأحزاب مجسدة بشخص واحد.. فهو المتصدر.. وهو المتحدث وهو الآمر.. وهو الناهي.. فما حاجة الحزب لقاعدة شعبية ما دام هذا الشخص هو الكل في الكل؟! وما الحاجة للحزب أصلاً؟!
ونرى بعض الأحزاب تسير على تقويم نمط الهرم المقلوب حيث تبدأ بتشكيلها بالأمين العام ومن ثم تسعى لقاعدة عريضة بعد ذلك!!
ونرى البعض يخاطب البطون من خلال المناسف والصاجية والكنافة بدل أن يخاطب عقول الناخبين من خلال البرامج الانتخابية التي تفيد الوطن والناس.
ونرى بعض الأحزاب التي تتوحد بين عشية وضحاها لغاية وسبب في نفس يعقوب وينفرط عقدها دون سبب ولغاية في نفس يعقوب!!
ونرى البعض ممن تجتاحهم عقدة (الأنا) يتصرفون وكأن تاريخ الأردن قد بدأ مع امتطائهم صهوات أحزابهم!!
ونرى البعض ممن ثبت فشلهم في السابق وقد شرعوا بمحاولة تدوير وتلميع أنفسهم بقالب جديد من خلال بوابة الأحزاب والعشائر أو أية وسيلة أخرى متاحة!!
وفي ختام الختام فإني أسأل اخوتنا الحزبيين: ما الذي يحول دون أن يكون على الساحة الأردنية ثلاثة أو أربعة أحزاب تضم اليمين والوسط واليسار لكي تصبح الفرصة مواتية لخدمة الوطن والأمة بالشكل الأمثل؟
يا جماعة الخير.. أيها الإخوة الحزبيون.. الدول العظمى فيها حزبان رئيسان ونحن لدينا بضع عشرات من الأحزاب التي تتصارع على الساحة الأردنية دون جدوى! فهل هذا يجوز؟!
فارحمونا أيها الإخوة.. يرحمكم الله واجنحوا إلى الاتفاق حول ثلاثة أو أربعة تيارات تضم اليمين والوسط واليسار فذلك أجدى وأنفع على طريق خدمة وطننا العزيز وقضايا أمتنا المصيرية!! والله ولي التوفيق.