بعضنا يسمع كل ما يقال اليه وبعضنا يتمتع بقدرات كافية للتفريق بين ما يقال للفائدة وما يقال للاستهلاك الاني ويدرك ان في بعض الحديث حكمة وفائدة وبعضه لا يستحق أن ينصت له.
في مرات كثيرة تمل اذاننا الانصات للقيل والقال فترسل لنا إشارات تدفعنا للابتعاد عن الضجيج و وتجعلنا نخلد للراحة ونبحث عن السكون في اماكن وفضاءات اكثر سكينة وهدوء ففي مكبرات الصوت بلاء مضاعف وتجاوز على قدرات اذاننا على التحمل .
من وقت لاخر أزور عيادة صديقي الاستشاري في طب الاذن والانف والحنجرة لاشكو له الآم اذناي التي تعاودني كلما ارتفعت اصوات الخطابات وعلى صفير الجماهير وطاف اصحاب السيارات الفارهة التي عمل ابناء الأثرياء على العبث بعوادمها لتضخيم الأصوات المنبعثة من محركاتها .
في عيادة الدكتور مفلح السرحان الواقعة في مستشفى الرويال المطل على شارع الاردن استطيع ان أبوح بكل الضجر المتراكم لدي واسرد له مشاهد من المواقف التي وضعت اذناي ومزاجي على المحك...
المهرجانات الخطابية والموسيقى الخالية من اي خيال او فن او تطريب وشحرجة بعض الخطباء خلف ميكروفانات نصبت لتقول للناس"حبونا ومالكوش غيرنا "
لقد احسن مشتفى الرويال عزل نوافذ المبنى لدرجة انك تشعر بفرق الصوت عن أي مكان اخر ..ففي ادواره ترى كل المركبات ولا تسمع لها صوتا ولا ياتيك من ضجيج الشارع ومخاطره الا المناظر التي قد تلمحها لبعض المركبات وهي تمارس فنون البتونة لتخيفنا وتزيد من احساسنا بخطر القيادة والسير على طرقاتنا.
صحوت صباح اليوم وانا اشعر بألم غير معتاد في اذني اليسرى وهي الاذن التي غالبا ما استقبل فيها وشوشات الاصدقاء الذين يخصوني ببعض المعلومات الواقعة تحت تصنيف" سري للغاية". مع قلة اكتراثي لمثل هذه الاوجاع الا اني خشيت ان اخرج لأي نشاط خوفا من ان افقد التوازن او اتسبب بأذى لي او لغيري لا سمح الله.
لا ادري كيف ولماذا لكن الألم الذي أحسست به ذكرني برجل أحببته منذ ان كنت طفلا والى ان رحل قبل عقد من الزمان. كان "ممدوح مبارك الرعود" ابو علي رجلا طيبا ودودا مدهشا وكريما .كانت والدته المرحومة ام ممدوح قريبة لأمي وكنت ادخل دارهم دون استئذان ونشاركههم الطعام والفرح والمناسبات.
كان للمرحوم ممدوح جملة بليغة مسكتة يرد فيها على كل الأخبار والأقوال التي لا تعجبه . كانت العبارة تشبة الكبسولة او جرعة الدواء التي لا تحتاج بعدها لقول اي شيء . في كل مرة يسمع ممدوح عتابا او لوما او قولا لا مكان له كان يجيب بايقاع انكاري بقوله "يا قلق عرق اذني " .كنا نعرف ان ابو علي يقصد بقوله ان ما يقال لا يهمه في شيء واقترح بذلك على محدثه بأن يغلق الموضوع.
كان بعضنا يقلد المقولة ويستعير الإيقاع الذي أصبح لصيقا بممدوح مع ان لا أحد اتقنه واحسن استخدامه كما فعل.
في زيارتي ظهر اليوم لصديقي وطبيبي الدكتور مفلح سألته عن عرق الاذن واذا كان هناك في الطب شيئا بهذا الاسم. وقد عقد لي محاضرة طويلة عن العصب العاشر المرتبط بالاذن والواصل الى القلب والرئتين والكبد ومعظم الاعضاء وما ادهشني ان اسمه العلمي "العصب التائه " .
اعرف ان ابن خالتي ممدوح لم يكن طبيبا ولا اظن ان في محيط قريتنا من يعرف بعلم التشريح لكني لا اعرف كيف ارتبط القلق بعرق الاذن وكيف قدرت الحكمة المتوارثة اهمية هذا العصب وقلقه وتأثيره.
الرحمة لروح ممدوح مبارك الرعود وليسمح لي ابناءه بان استخدم من وقت لاخر مقولته الخالدة " يا قلق عرق اذني"