لا اعرف كم منا لا يزال يتذكر عرائش المقاثي التي كانت تنتشر على امتداد السهول والسفوح التي يختار أهلها ان يزرعوها بالفقوس والبطيخ واحيانا البندورة التي لها مذاق يصعب ان تجد شبيها له في آلاف اطنان البندورة التي تنتجها مزارع الاغوار والبادية اليوم.
للذين لا يعرفون العريشة فهي مظلة يقوم صاحب المقثاة ببنائها في مكان مشرف لتقيه حرارة الشمس وهو يطل على المقثاة ويحرسها من لصوص المزارع ويراقب فعالية الفزاعات التي ينصبها بأشكال تشبه البشر لمنع الطيور العطشى والثعالب الماكرة من السطو على حبات الفقوس ونقر كرات البطيخ لتروي عطشها وتشبع جوعها الذي يتفاقم كلما اشتد صهد الصيف.
في غالب الاحيان يجري بناء أربعة زوايا من الحجارة المتوفرة وترفع عليها مداميك لتصل بها الى الارتفاع المرغوب ويجري وضع اعواد وعصي بطرق متقاطعة لتنثر فوقها الاعشاب الجافة وتفرد قطع القماش القديم على سقفها بشكل وكثافة تحول دون تسلل اشعة الشمس الى داخلها.
في كل الأحوال يبقي مصمم العريشة على واجهات العريشة مفتوحة من الجهات الاربعة حتى يتمكن الناطور من المراقبة في فضاء مفتوح ويخلق أجواء من شفافية الردع وتوازن الرقابة وحتى لا يبقى على اية خواصر لينة يسهل اختراقها او التسلل من خلالها.
يتناوب على الحراسة جميع أفراد الأسرة من الشباب والنساء والصغار والكبار ويقدم كل واحد تقنيات وأساليب ومبادرات يحاول فيها التفوق على نفسه فيحصن المقثاة ويجود الحراسة ويخفض الدوافع عند كل الطامعين بعد ان يعرفوا ان المقثاة محروسة بعيون حذرة وليست سهلة المنال كما يظن البعض.
بعض النواطير يملكوا قدرة هائلة على الرقابة والتدقيق فينجحوا في حماية المقثاة ويردعوا كل من قد يجرؤ على المحاولة في حين يتخاذل البعض الاخر وقد يهمل وينام فيصدق عليهم قول الشاعر أحمد شوقي "نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. وقد بشمن وما تفنى العناقيد"
في ايام طفولتي وصباي شاهدت عشرات المقاثي وعرفت اساليب الحماية والحراسة كذلك اساليب الاعتداء والسرقة والسطو التي كان يمارسها الصغار والكبار والاقارب والغرباء على مقاثي المزارعين وكنت استمع الى ردات الفعل والتحليلات والمكائد والمؤامرات في اعقاب كل محاولة سرقة.. كانت ردات الفعل معقولة عندما يكون المعتدي من الصغار وقاسيا وعنيفا ومزعجا اذا ما ارتكبه الكبار.
كان المرحوم حمد بن ذياب السعود اكثر اهالي قريتنا عناية في المقاثي الصيفية. على أرضه التي كانت تربتها شبيهة بالحنا اعتاد حمد ان يزرع البطيخ والفقوس والخيار. في تلك الأيام كانت اراضي قنان الثوابية اراضي خير وعطاء. وانا ارعى الاغنام على هذه التضاريس الساحرة كان يغريني منظر الخضرة اليانعة لمقثاة العم حمد فاقترب من الوادي الصغير المجاور لحوافها وقبل ان اصل يخرج حمد من عريشته وينادي بصوت مسموع على احد لا اراه.. كنت اشعر انه يطلق بهذا الصوت ما يشبه الطلقات التحذيرية. كان صوته كافيا ليقول لي ابتعد منطقة محرمة. بلا تفكير او تردد أعود ادراجي وفي نفسي رغبة ان تقع يداي على فقوسة خرجت من تحت ظلال الأوراق بعد ليلة صيف أروى نداها الارض.
غير بعيد عن هذه المقثاة النموذجية زرع بعض اهالي قريتنا اجزاء من حقول التبغ والذرة بيوتا من البطيخ والفقوس وتركوها معتمدين على أنها وسط محاصيل لا تهم الرعاة. ولم يدرك الزراع ان الرعاة كشافة يدققون في كل شيء.. في كل مرة تفشل محاولاتنا في اجتياز مقثاة العم حمد كنا نتجه الى المقاثي الاقل رعاية وتلك التي تخلو عرائشها من النواطير.
كانت مالا سائبا ومطمعا لكل عابث يقطفون البطيخ قبل ان ينضج ويقلبون عالي البيوت سافلها ولا اظن ان ثمرة واحدة وصلت إلى مرحلة النضج الكامل.
المحزن ان العرائش كانت تهدم او تتهاوى بعد نهاية الموسم.. كنا نذهب اليها ونجلس تحتها بعد ان هجرها بناتها كنت اتمنى لو بقيت العرائش لا لشيء بل لرمزية وظيفتها والهيبة التي فرضتها على المكان.. قبل سنوات عدت الى منازل اهلي واخترت ان اتجول على اقدامي في كل المساحات التي رعيت فيها الاغنام وقد قطعت الوادي الذي كان محرما علي اجتيازه يوم كان حمد بن ذياب يحسن حماية مقثاته ويوم كان لدي الرغبة في التسلل اليها.. ترحمت على روحه وذرفت دمعتين ورحلت.