الاقتصاد الياباني… إلى أين؟
د. جواد العناني
30-08-2024 10:20 AM
بعدما بقيت اليابان حتى نهاية عام 2023 تحتل المركز الثالث عالمياً من حيث الحجم النقدي لناتجها المحلي الإجمالي، إلا أنها فقدت ذلك المركز لصالح ألمانيا.
وكذلك، فإن قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وفق معادلة القوة الشرائية "PPP"، قد هبطت من المرتبة الثالثة إلى الرابعة لصالح الهند، التي سبقت كلاً من ألمانيا واليابان وفق هذا المقياس.
وقد شهدت اليابان تقدماً واضحاً في الناتج المحلي الإجمالي بعدما شهد نموها تراجعاً سنوياً إبان فترة كوفيد-19، وقد حققت في النصف الأول من عام 2023 معدل نمو قدره 1.3%، ولكن سعر التبادل للعملة اليابانية (Yen) يعاني من ظاهرة التطاير، أو التغير والتبدل السريعين (Volatility) مما يؤدي إلى تقلب في القيمة النقدية لإنتاجها الكلي.
ولكن من الواضح أن هناك دعوات واضحة بين عدد من كبار الاقتصاديين داخل اليابان وخارجها ممن يعتقدون أن الاقتصاد الياباني بحاجة ماسّة إلى إعادة تصحيح هيكلية. وهناك عدة مظاهر فيها تستدعي اهتمام الباحثين.
وقد وجدتُ فائدة ومتعة كبيرتين في قراءة نص مقال نُشر في شهر مارس/آذار من هذا العام في مجلة "The Diplomat" بقلم الكاتب الصيني جيهاي شي يتحدث عن التناقض (Paradox) بين تقلب معدلات النمو في اليابان وتراجع مكانتها عام 2010 من الترتيب الثاني في حجم اقتصادها إلى المركز الثالث بعد الصين عام 2010، وإلى المركز الرابع بعد ألمانيا في نهايات عام 2023 .
ويتساءل: كيف تفسر ارتفاع الرقم القياسي لأسعار الأسهم اليابانية ( نيكاي) ما يعكس تفاؤلاً من قبل اليابانيين بالذات بنمو اقتصادهم. اليابان لديها القدرة والمرونة على التكيف مع التغيرات النقدية والمالية الطارئة، وعلى الرغم من أن عملية التصحيح مطلوبة، وبدعم من سياسات بنك اليابان المركزي وهيمنة السياسات الحكومية على الاقتصاد (أو تراجع نسبة الحرية الاقتصادية في اليابان قياساً بالدول المنافسة لها)، إلا أنها، كما ذكرنا أعلاه، بحاجة إلى النظر إلى إصلاحات هيكلية عميقة قد تتطلب سياسات وإجراءات ولربما قوانين جدلية ومثيرة للخلافات.
وقد أثار موضوع الجدل التوقعات بأن عام 2024 سيشهد تراجعاً اقتصادياً على الرغم من التقديرات المتفائلة في بداية العام. وفي مقال نشرته "بلومبيرغ" في الثاني من شهر يوليو/تموز الماضي أكد "تورو فوجيوكا" أن معظم الاقتصاديين قد غيروا توقعاتهم حيال معدل النمو في اليابان إلى أدنى بكثير من التوقعات في بدايات العام. وأول ما يتحدث عنه الاقتصاديون في اليابان هو سرعة الهبوط في عدد السكان.
وقد شهدت اليابان منذ عام 1968 وحتى 2022 ارتفاعاً مطّرداً في سكانها حتى صاروا عام 2022 أربعة أضعاف ما كانوا عليه قبل 154 عاماً. ومن المتوقع أن يهبط عدد سكان اليابان من 128 مليوناً عام 2008 إلى 106 ملايين عام 2050، ومن بعدها إلى 63 مليوناً فقط العام 2100. وأسباب تراجع سكان اليابان تعود إلى تصنيع القطاع الزراعي التقليدي، وإلى تدني نسبة الزواج، وعدم التسامح في إنجاب أطفال خارج إطار الزوجية.
وبالطبع، فقد أدى هذا إلى التأثير على سياسات التوظيف في الشركات، التي صارت تبتكر الوسائل للحفاظ على العاملين لديها. ومن هذه الوسائل تسهيل عمل المرأة من ناحية، ومن ناحية أخرى إبقاء أكثر من تسعة ملايين عامل في الخدمة بعد وصولهم إلى سن التقاعد. ولكن مثل هذه السياسات والإجراءات لن تجدي إذا استمر عدد السكان بالتراجع، لأن هناك حداً أقصى بين عدد العاملين من ناحية وحجم السكان من ناحية أخرى.
وبسبب تراجع معدلات الولادة، فإن نسبة كبار السن سوف ترتفع وهؤلاء بحاجة إلى خدمات إنسانية كثيرة. أما القضية الهيكلية الثانية المطروحة في اليابان، فهي التحول أكثر فأكثر لإنتاج الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة، على الرغم من نمو هذين القطاعين كثيراً.
ومنذ الحرب العالمية الثانية في العام 1945 كان قطاعا الزراعة والصناعة يشكلان الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي. لكن، ومنذ عام 1980 ومع تبني اليابان سياسات التوسع في استخدام التكنولوجيا الحديثة في هذين القطاعين، والنجاح في التصدير، بات الطلب على قطاعات الخدمات الإلكترونية والبحثية والجامعية والصحية والحكومية وغيرها من الخدمات كالنقل والاتصالات والشحن وغيرها ينمو بسرعة كبيرة.
ولذلك، تراجعت مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 إلى 1.02% وقطاع الصناعة إلى 26.92%. وبالمقابل ارتفع قطاع الخدمات إلى 71.39% ، ولكنه قابل للزيادة في بعض المجالات، خاصة السياحية. ومن يراقب مثلاً التلفزيون الياباني يلاحظ أن الحكومة في اليابان تسعى لجذب السياح.
وقد قدم التلفزيون الصيني باللغة العربية فيلماً عن جذب اليابان السياح الأغنياء من الصين والهند والخليج الراغبين في شراء السلع الثمينة من الساعات والألبسة والأحذية والاكسسوارات وقطع الماس وغيرها من الأحجار الكريمة، والتي كانت موجهة أصلاً للمستهلك الياباني.
ولكنني لاحظت أثناء سفري عبر عقود مختلفة لدول العالم أن أعداداً كبيرة من اليابانيين يهاجرون إلى دول زراعية في أميركا اللاتينية. ففي البرازيل علمت أن أكثر من 50 ألف مزارع ياباني يعملون في زراعة القمح والأرز، ومحاصيل شبه استوائية وفواكه وغيرها، ويعيدون تصديرها إلى اليابان. وهذه تدخل في حسابات اليابان على أنها سلع زراعية مستوردة، ما يقلل من صافي مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي.
وفي دول أميركا اللاتينية يبلغ عدد المهاجرين من اليابان 2.20 مليون نسمة، عاد منهم 260 ألفاً بعد الحرب العالمية الثانية وهؤلاء ملتحمون مع اليابان، علماً أن كثيراً منهم، لاقى عنتاً كبيراً في الولايات المتحدة وهاواي بعد حملة اليابان عام 1941 على ( بيرل هاربر) ( Pearl Harbor)، التي أدت إلى وضع آلاف اليابانيين في سجون محاطة بأسيجة في العراء.
وأما التحدي الثالث الياباني، فهو التحدي الاجتماعي الماثل في العادات والتقاليد والمسلكيات التي اشتهر بها اليابانيون، والتي أوردها الكاتب وليام أوتشي William Oachi في كتابه الصادر عام 1981 والموسوم بـ"النظرية Z كيف تستطيع الإدارة الأميركية مواجهة التحدي الياباني"، ويتكلم فيها عن ولاء اليابانيين لشركاتهم، وحرصهم على العمل، وعدم إضاعة الوقت، وأخذ رأي العمال في تحسين الأداء… الخ".
ولكن التمدن والتكنولوجيا الحديثة أثرتا كثيراً على سلوك الشباب في الجيلين "X" و" Z" والقرن الحادي والعشرين. فهل سيحصل احتكاك واصطدام بين الأجيال، أم أن تغييراً سيفرض نفسه بالسماح بمزيد من الانتقال من شركة إلى أخرى، ومن تخفيف إجراءات الهيمنة الحكومية، وفي إغراء اليابانيين بزيادة نسبة ما ينفقونه على الاستهلاك من دخولهم؟ وقس على ذلك من متغيرات تساهم في حل الأزمة الهيكلية المتمثلة بتراجع أعداد العمال، والتي باتت العادات والمعتقدات اليابانية حائلاً دون مزيد من الحركية (Mobility) فيها. هذه الأسئلة وغيرها تواجه اليابان. لا شك أن اليابان أنجزت معجزات منذ حركة الإصلاح التي سميت (Meiji Restoration) في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، حيث استعاد الإمبراطور مييجي الحكم إليه وسميت الإصلاحات باسمه.
وقد أدى ذلك الإصلاح إلى تغييرات جوهرية في الحكم إبان عهده، وأدت إلى سرعة التحول الصناعي والإنتاجي في اليابان. والإصلاحات التي قدمها الأميركان بعد الحرب العالمية الثانية خاصة على دور الإمبراطور ومنح الأحزاب صلاحيات الحكم، ما أدى إلى خلق انتعاشة جديدة لهذا الشعب العامل، والذي حول طاقته التي برزت في حربه ضد الأميركان والحلفاء، إلى طاقة إنتاجية بعد خسارة الحرب العالمية الثانية.
وقد مضى على هذه الإصلاحات الأخيرة نحو 79 عاماً، وهي تقريباً مساوية للفترة التي تفصل بين بداية إصلاحات مييجي والإصلاحات بعد الحرب العالمية الثانية والتي آن أوان تغييرها.
اليابان قصة يجب أن تتعلم منها الدول العربية الراغبة بالإصلاح، ومن أهم أسباب نجاحها العمل الجاد والإيمان والنظرة الإيجابية المدعومة بأخلاق العمل الحميدة.
"العربي الجديد"