إدارة المستقبل بعقلية الماضي
صالح سليم الحموري
28-08-2024 06:37 PM
في عالم يتسم بالتغيرات المتسارعة والتحديات الجديدة التي تظهر باستمرار، أصبح من الضروري أن تكون المؤسسات مستعدة لاستشراف المستقبل وتبني الأساليب الحديثة في الإدارة. ولكن، للأسف، نجد أن العديد من المؤسسات لا تزال تعتمد على تقنيات وأساليب إدارية تعود لعقود مضت، ما يقيد قدرتها على "الابتكار" و"التكيف" مع المتغيرات. إن "إدارة المستقبل" بأدوات الماضي ليست فقط غير فعالة، بل قد تكون مدمرة للمؤسسات التي تسعى للبقاء والنمو في هذا العالم المتغير.
عندما تنمو المؤسسات، يتعقد هيكلها الإداري، ويصبح من الصعب اتخاذ القرارات بشكل فعّال. ومع استمرار الاعتماد على قلة محدودة من الأشخاص لاتخاذ القرارات والبحث عن الفرص السانحة، تتزايد المخاطر. في كثير من الأحيان، "يكون الموظفون خارج فرق الإدارة أكثر قدرة على رؤية الفرص والمخاطر في الأفق". ورغم ذلك، تستمر المؤسسات في تجاهل هذه الحقيقة، معتمدة على "نهج مركزي" يجعل اتخاذ القرارات بطيئًا وغير مرن. لهذا السبب، من المهم أن تتبنى المؤسسات أسلوبًا قياديًا تشاركيًا، يتيح المجال لمشاركة جميع الموظفين في عملية صنع القرار.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، نجد مثالاً ناجحًا في كيفية تبني الرشاقة المؤسسية والتكيف مع التغيرات. استطاعت الحكومة الإماراتية، من خلال رؤيتها المستقبلية واستراتيجياتها المبتكرة، أن تحقق توازنًا بين الحفاظ على القيم التقليدية وتبني أحدث التقنيات. القيادة التشاركية والمرونة في اتخاذ القرارات كانت من العوامل الحاسمة التي ساعدت الإمارات في أن تصبح نموذجًا يحتذى به في استشراف المستقبل وإدارة التغيير.
إلى جانب ذلك، تعتمد العديد من المؤسسات على منهجيات إدارية تقليدية لا تسمح بوجود مساحة "للتجريب" أو "الابتكار". هذه المنهجيات تنظر إلى "الأساليب القديمة" كأعمدة راسخة لا يمكن المساس بها. وبالتالي، يصبح من الصعب للغاية التعلم أو تغيير طرق الإدارة، حتى عندما تتطلب الظروف ذلك. في المقابل، تشجع دولة الإمارات على "التجريب والتعلم من الأخطاء كجزء من ثقافة الابتكار" التي تعززها في مختلف قطاعاتها. هذا النهج يمكن أن يكشف عن أساليب جديدة وأكثر فعالية تتماشى مع التغيرات المستمرة في السوق.
ولعل واحدة من أكبر المشكلات التي تواجهها المؤسسات هي البقاء في قوقعة الماضي. يدير الكثير من المديرين مؤسساتهم اليوم باستخدام نفس الأساليب التي كانت تستخدم منذ 100 عام، رغم أن هذه الأساليب أصبحت غير ملائمة للواقع الحالي. كانت ممارسات الإدارة في الماضي تهدف إلى الحفاظ على الأوضاع كما هي، لكن "إدارة المستقبل" تتطلب القدرة على التكيف والتغيير المستمر.
لذلك، من الضروري أن تعيد المؤسسات النظر في هياكلها الإدارية وتتبنى أساليب حديثة تركز على الاستشراف والابتكار والتكيف مع التغيرات. في هذا السياق، تأتي "الرشاقة المؤسسية" كأحد أهم الأدوات التي يمكن أن تستخدمها المؤسسات لتحقيق التكيف مع المتغيرات.
وليس ذلك فحسب، بل إن التركيز على الأمور الأقل أهمية يعد من الممارسات التي لا تزال موجودة في العديد من المؤسسات. فعوضًا عن التركيز على تحقيق النتائج الفعلية والمخرجات التي تساهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، تستمر بعض المؤسسات في مراقبة الأمور الروتينية مثل "حضور الموظفين". هذا النهج يؤدي إلى تضييع الوقت والموارد في متابعة الأمور الثانوية على حساب الأهداف الكبرى. في المقابل، نجد أن دولة الإمارات قد تبنت نهجًا يركز على "تحقيق النتائج" والاستفادة القصوى من الوقت والموارد لتحقيق رؤية واضحة للمستقبل.
إن الحلول لهذه المشكلات ليست بعيدة المنال. يجب على المؤسسات أن تتبنى "القيادة التشاركية" التي تشرك جميع المستويات في عملية صنع القرار، وأن تشجع على "التجريب" وتخصص موارد لتجربة الأفكار الجديدة. كما ينبغي إعادة "تصميم الهياكل الإدارية" لتكون أكثر مرونة وقادرة على التكيف مع التغيرات. والأهم من ذلك، يجب أن تتحول الإدارة إلى نهج يركز على تحقيق "النتائج الفعلية"، بدلاً من التركيز على الأمور الروتينية.
"إدارة المستقبل بأدوات الماضي" قد تقيد قدرة المؤسسات على التكيف مع التغيرات والاستفادة من الفرص الجديدة. ومن خلال تبني أساليب إدارية حديثة تركز على الاستشراف والابتكار والرشاقة والتعاون، وهدم الصوامع القديمة بين المؤسسات الحكومية ومد جسور التعاون بينها، يمكن للمؤسسات أن تضمن قدرتها على البقاء والنمو في عالم متغير. إن الحلول المقترحة ليست مجرد أدوات لتجاوز التحديات، بل هي عناصر جوهرية في إعادة بناء "الثقافة المؤسسية" نحو مستقبل أكثر إشراقًا ومرونة، كما هو واضح في تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة.
* خبير التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية