بين الخصوصية والتحدي .. هل يجيد الأردن استغلال فُرَصِه؟
محمود الدباس - ابو الليث
28-08-2024 11:25 AM
عندما نتحدث عن خصوصية الأردن.. يتبادر إلى الأذهان موقعه الجغرافي في قلب منطقة ملتهبة.. وتحدياته الاقتصادية التي تتعاظم مع مرور الأيام.. إلا أن هذه الخصوصية ليست عبئًا كما يروج البعض.. بل هي فرصة يمكن تحويلها إلى مكاسب.. ولكن.. لماذا لا نرى شيئاً ملموساً على أرض الواقع رغم تكرار المسؤولين لوعود استقطاب المستثمرين؟!.. هل هي مجرد شعارات؟!.. أم أن هناك حاجة لإعادة النظر في السياسات والإجراءات المتبعة لتحقيق هذه الوعود؟!..
الدور الحكومي في هذا المجال لا يمكن تجاهله.. فالحكومة هي من تضع القوانين وتحدد السياسات.. وهي التي تمتلك الأدوات لتشجيع أو تعطيل الاستثمار.. كما أنها الوحيدة القادرة على الحصول على القروض الكبيرة والمنح المالية لدعم الاقتصاد الوطني.. ودعم أي منتج محلي وحمايته من المنافسة الشديدة فهي المسؤولة عن تحفيز القطاع الخاص والمستثمرين من خلال مشاركتهم في مشاريع تتطلب تمويلاً كبيراً.. مثل مشروعات البنية التحتية والمواصلات العامة.. من خلال نظام BOT الذي يسمح للدولة باستعادة ملكية المشاريع بعد عدة سنوات.. هذه الاستراتيجية تتيح فرصة كبيرة للاستثمار في منظومة المواصلات العامة.. سواء كان ذلك في تطوير شبكة الحافلات أو إنشاء خطوط قطارات حديثة..
ومع ذلك.. يجب ألا نغفل عن أهمية المخزون البشري الأردني.. فالأردن ليس فقط موقعاً استراتيجياً.. بل هو موطن لموارد بشرية تتمتع بالتنوع والمهارة.. هناك العديد من الأردنيين الذين يمتلكون المعرفة التقنية.. وهناك من لديه الرغبة الجامحة لتعلم مهارات التقنية المتقدمة لو أتيحت لهم الفرصة.. ومنهم من يحمل أفكاراً إبداعية في الصناعات المختلفة.. لكنهم يفتقرون إلى الدعم المالي.. للأسف.. نجد أن الكثيرين من هؤلاء الأفراد قد أثبتوا جدارتهم خارج الأردن عندما وُجدت لهم الفرصة والدعم المناسب..
هذا التنوع البشري لا يتوقف عند المعرفة التقنية.. بل يمتد إلى الأيدي العاملة الماهرة وغير الماهرة.. التي أصبحت أكثر استعداداً لقبول أنواع العمل المختلفة بعد تلاشي ثقافة العيب في العمل.. شبابنا اليوم لا يلتفتون إلى ماهية العمل طالما أنه عمل شريف ويوفر لهم سبل العيش الكريم..
لكن هنا يأتي دور الحكومة مرة أخرى.. فهي القادرة على تحديد الرؤى الاقتصادية المستقبلية.. وهي التي تملك القرار في فتح أو إغلاق مجالات دراسية معينة بناءً على احتياجات السوق.. لذا.. يجب أن يتم استغلال هذا المخزون البشري بشكل أمثل.. من خلال سياسات تعليمية وتدريبية تهدف إلى تجهيز الأجيال القادمة بمهارات تتوافق مع متطلبات السوق المحلي والعالمي..
وعلى صعيد آخر.. يبقى البعد السياسي الأردني.. هو حجر الزاوية في تعزيز فرص النمو الاقتصادي.. فالسياسات الخارجية المتوازنة التي يتبعها الأردن مع غالبية الأنظمة السياسية العالمية.. أكسبته قبولاً دولياً واحتراماً واسعاً.. مما يسهل فتح الأبواب أمام المنتجات الأردنية في الأسواق العالمية.. ويساهم في جذب الاستثمارات الأجنبية التي تدعم الاقتصاد الوطني.. إن قدرة الأردن على الحفاظ على هذا التوازن السياسي تُعد ركيزة أساسية في استقراره الداخلي.. وهي عامل مهم في ضمان استمرار الدعم الدولي.. الذي يعزز من قدرته على التصدي للتحديات الاقتصادية والاحتياجات التنموية..
لكي نفهم كيف يمكن للأردن أن يستفيد من خصوصيته الجغرافية والسياسية والاقتصادية وحتى البشرية.. علينا أن نتأمل في تجارب دول شبيهة.. سنغافورة.. على سبيل المثال.. بلد صغير لا يملك موارد طبيعية.. لكنه استطاع بفضل السياسات الحكيمة.. والإصلاحات الجذرية.. أن يتحول إلى مركز اقتصادي عالمي.. كوريا الجنوبية أيضاً.. التي خرجت من حرب مدمرة.. استطاعت أن تحول اقتصادها إلى أحد أقوى الاقتصادات في العالم.. السر يكمن في الاستثمار في الإنسان.. في التعليم والابتكار.. في البنية التحتية المتطورة.. وفي سياسات حكومية تشجع على الاستثمار بشكل فعلي.. وليس مجرد كلام على الورق..
الأردن يمتلك موقعاً جغرافياً استراتيجياً.. ومخزوناً بشرياً هائلاً.. يمكن أن يجعله مركزاً لوجستياً وصناعياً مهماً في المنطقة.. ولكن لتحقيق ذلك.. يحتاج الأردن إلى إجراءات ملموسة.. وإصلاحات اقتصادية وتشريعية تعزز من جاذبية بيئته الاستثمارية.. هناك العديد من القوانين والإجراءات المالية.. التي تعيق تدفق الاستثمارات.. على سبيل المثال.. يجب إعادة النظر في قوانين الشركات.. وتسهيل إجراءات تأسيس الأعمال.. وتحفيز أدوات التمويل المبتكرة.. مثل السندات القابلة للتحويل.. وصناديق الاستثمار العقاري.. هذا يتطلب إرادة سياسية قوية.. وفكراً استراتيجياً متجدداً..
أما عن استقرار الأردن في ظل محيطه الملتهب.. فالقوى الكبرى.. كأمريكا وروسيا والصين.. تدرك أهمية الأردن كعامل استقرار في المنطقة.. وتسعى إلى الحفاظ على استقراره.. لضمان مصالحها.. إلا أن إيران.. بمشروعها الإقليمي.. قد ترى في الأردن هدفاً لتحقيق طموحاتها التوسعية.. فهي تسعى للسيطرة على المنطقة عبر خلق نقاط ضعف في دول مثل الأردن.. لذا.. يجب على الأردن أن يكون حذراً ويقظاً.. وأن يعتمد على استراتيجية تضمن استقلاله وأمنه القومي.. وذلك عبر تعزيز تحالفاته مع القوى التي ترغب فعلياً في استقراره.. وتطوير قدراته الذاتية على مواجهة التحديات..
ختاماً.. يجب أن ندرك أن الأردن ليس مجرد دولة صغيرة تواجه تحديات كبيرة.. بل هو بلد يمتلك إمكانيات هائلة.. إذا ما أحسن استغلالها.. وإن تحويل التحديات إلى فرص.. ليس مجرد شعار.. بل هو استراتيجية يجب أن تنعكس على أرض الواقع.. من خلال سياسات وإجراءات ملموسة.. فالأردن ليس بحاجة إلى وعود جديدة.. بل إلى تنفيذ حقيقي على أرض الواقع.. تنفيذ يجلب الاستثمارات.. يعزز الاستقرار.. ويضع الأردن في المكانة التي يستحقها على خريطة الاقتصاد العالمي..