ليسوا أرقاما، هكذا بدأنا الحديث عن شهداء غزة قبل قرابة العام، وفي الواقع الحال نحن اليوم بتنا نرى أنهم للأسف أصبحوا أرقاما، أرقاما لأشخاص لكلّ منهم قصة وحُلم وحياة انتهت بجرائم إبادة بدأت ولم تنته حتى اللحظة، ليصبحوا حرفيّا في تاريخ هذه المرحلة أرقاما يزداد عددها كل ثانية، عن سابقتها، نزداد وجعا لكن واقع الحال يحيكهم دون توقف.
ويقابل هذه المجازر وحرب الإبادة حضور لحكومة اليمين المتطرفة في مفاوضات واضح جدا أنها شكلية، لوقف إطلاق النار على أهلنا في غزة، ودون أدنى شك أن السؤال الذي يفرض نفسه وسط هذه التفاصيل، ماذا يريد نتنياهو من خوضه لهذه المفاوضات؟ بطبيعة الحال لم يعد مستغربا فشل أي مفاوضات واحباط أي جهود لوقف إطلاق النار، فسرعان ما نرى قصفا لمراكز إيواء ونزوحا جديدا من منطقة إلى أخرى وقصف مناطق يفترض أنها آمنة، وتدميرا ومجازر، ناهيك عن إعلانات إسرائيلية تشدد بمجرد إطلاقها على سعيها لفشل المفاوضات ومن بينها على سبيل المثال رفض الاحتلال الانسحاب من معبر ومحور صلاح الدين «فيلادلفيا- رفح» والانسحاب من محاور ومناطق أخرى، في ملخص القول إن نتنياهو لا يريد سلاما ولا يريد مفاوضات ولا يريد حلولا ويصرّ على المضي في حرب على أبرياء دون توقف.
الغريب فيما يحدث هو خوض مفاوضات مع إسرائيل، ففيما يشاركه قادتها بهذه المفاوضات، تقصف مدافعهم وطائراتهم أهلنا في غزة، تحت مرأى العالم الذي لم يرمش له رمش منذ ما يقارب العام، هي مماطلة نتنياهو وسرقة الوقت بإطالة زمن الحرب، يسعى لجعل غزة خارج الزمن وخارج جغرافيا الحياة الإنسانية الطبيعية، بل في أقل مستوياتها، يريد الاستمرار في خطط مريبة تضع المنطقة أمام تحديات خطيرة بل تحديات أخطر من الخطر، تسعى لإجبار أهلنا في غزة على ما لا يريدون كالنزوح من شمال غزة نحو الجنوب على سبيل المثال، في محصلة الأمر يريد نتنياهو تحقيق مكاسب له عسكرية وسياسية وشعبية وللأسف أن أهل غزة، هم أدواته لتحقيق ذلك.
لم يعد الوضع في غزة يمكن قبوله أو السكوت عنه، لم يعد قبول لمّ أشلاء الأطفال مقبولا، لم يعد حمل الأطفال دون أطراف أو دون رأس أو من خرجت أحشاؤه، لم يعد منظر النزوح مقبولا، لم يعد قصف مراكز الإيواء والمدارس والمساجد والكنائس مقبولا، وفي القبول هنا لا أعنيه القبول المعتاد الذي نقبل به مشهدا أو حالا، أعني بالقبول هنا قبول الحياة الطبيعية، واستيعاب أن أهلنا في غزة حقيقة ليسوا أرقاما هم بشر يحبون الحياة ويحلمون بيومهم وغدهم ومستقبلهم، القبول بأن أهل غزة بشر كباقي البشر وكما هي الإنسانية.
فماذا تريد إسرائيل من كل هذه المفاوضات التي تخوضها، وغزة تعيش حربا تزداد عنفا يوما بعد يوم، وتزداد إجراما وارتكابا لجرائم الحرب، والمجازر، ماذا يريد نتنياهو من ذهابه وايابه لعواصم ودول بغطاء المفاوضات، ومن الواضح ان كل ما يحدث مجرد استعراض هشّ يصدقه العالم، وربما لا يصدقه إنما يدعون ذلك، وبعضهم يصفق لهذه «الحركات» ظنا منهم أن ما يحدث حقيقي، وأن إسرائيل برئيسها المتطرف يسعى للسلام، وواقع الحال في حقيقته يغضون النظر عنه، ولا يرون جوهره وكأن رؤيتهم محدودة أو مقتصرة على حراك الاحتلال البعيد كل البعد عن الواقع.
الدستور