حمى النشر في المجلات المصنفة عالمياً
د. أشرف الراعي
24-08-2024 11:01 AM
في السنوات الأخيرة، باتت حمى البحث العلمي والنشر في المجلات المصنفة عالمياً ظاهرة تتفشى بسرعة مقلقة في الأوساط الأكاديمية، محولةً ما كان يُفترض أن يكون عملية بحثية ذات قيمة علمية إلى سباق محموم وراء أرقام ومؤشرات خادعة، وهذا التسابق بالطبع لم يعد يتوقف عند حدود التميز الأكاديمي، بل أصبح تجارة رائجة تستغلها مراكز بحثية تهدف إلى تحقيق الربح على حساب جودة البحث العلمي ونزاهته.
إن ما يجري اليوم في العالم الأكاديمي هو تحوير خطير لمفهوم النشر العلمي؛ فبدلاً من أن يكون النشر في المجلات المصنفة وسيلة لنقل المعرفة وتبادل الأفكار بين العلماء والباحثين، أصبح وسيلة لتحقيق أهداف مادية وشخصية، ذلك أن الكثير من الباحثين اليوم يتسابقون لنشر أكبر عدد ممكن من الأبحاث في مجلات ذات تصنيف عالٍ، بغض النظر عن قيمة البحث العلمية، ويبقى المهم هو الوصول إلى الهدف: الترقية الأكاديمية، أو الحصول على تمويل، أو تعزيز السمعة.
وفي خضم هذا السباق، ظهرت مراكز وشركات تقدم خدمات نشر "جاهزة" مقابل مبلغ مالي، حيث يمكن للباحث أن يحصل على بحث مكتوب وجاهز للنشر في إحدى المجلات المصنفة، لا بل أن بعض هذه المراكز تذهب إلى أبعد من ذلك، فتقدم ضمانات بالنشر في مجلة معينة، مما يطرح تساؤلات خطيرة حول نزاهة عملية التحكيم العلمي في تلك المجلات.
هذه الممارسات لا تضر فقط بالبحث العلمي، بل تشوه العملية الأكاديمية برمتها؛ فعندما تصبح الأبحاث مجرد "سلعة" يمكن شراؤها وبيعها، فإننا نفقد جوهر العلم، في السعي وراء الحقيقة والمعرفة، خصوصاً وأن التسابق على النشر في المجلات المصنفة أدى إلى تراجع ملحوظ في جودة الأبحاث المنشورة؛ ففي كثير من الأحيان، يتم التركيز على الكم على حساب النوع.
كما أن بعض الباحثين يلجؤون إلى تقسيم أبحاثهم إلى أجزاء صغيرة ليتمكنوا من نشر أكبر عدد ممكن من الأوراق، دون أن تكون هناك إضافة حقيقية للعلم والمعرفة، فضلا عن أن بعض المجلات، التي تُعرف بصرامتها في التحكيم العلمي، أصبحت تقبل نشر أبحاث ضعيفة فقط من أجل الحفاظ على مكانتها في التصنيفات العالمية.
إن هذه الظاهرة لها تأثيرات سلبية متعددة، أولها، تزايد الضغط النفسي على الباحثين، وخصوصاً الشباب منهم، حيث يجدون أنفسهم مجبرين على النشر بشكل متكرر من أجل الترقية أو الحصول على فرص عمل أفضل، وهذا الضغط يؤدي في كثير من الأحيان إلى تدهور جودة الأبحاث، حيث يسعى الباحثون لتحقيق الكمية على حساب النوعية.
كما أن الاعتماد المتزايد على هذه المجلات المصنفة يعزز من التفاوت بين الباحثين في العالم المتقدم ونظرائهم في الدول النامية، ففي كثير من الأحيان، يجد الباحثون من دول العالم الثالث صعوبة في نشر أبحاثهم في هذه المجلات بسبب معاييرها الصارمة، مما يزيد من الفجوة العلمية.
ومن هنا، من الضروري اليوم أن يعيد المجتمع الأكاديمي التفكير في معايير التقييم التي تعتمد بشكل كبير على عدد الأبحاث المنشورة في المجلات المصنفة، كما يجب أن يكون التقييم مبنياً على جودة البحث وتأثيره الحقيقي على المجتمع العلمي والمجتمع بشكل عام، وليس فقط على مكان نشره.
كما يجب على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية تعزيز النزاهة الأكاديمية ومحاربة الظواهر السلبية المرتبطة بالنشر العلمي، وأن يكون النشر في المجلات المصنفة عالمياً وسيلة لتحقيق التميز العلمي، وليس غاية بحد ذاتها.
إن ما يجري اليوم في عالم البحث العلمي هو انعكاس لمجتمع يفضل المظاهر على الجوهر، والأرقام على القيم، ومن هنا علينا أن نتوقف ونعيد النظر في الاتجاه الذي نسير فيه، قبل أن نفقد الثقة في العلم نفسه؛ ذلك أن النشر العلمي ليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف شخصية أو مادية، بل هو أداة لنقل المعرفة وتطوير الإنسانية وإذا فقدنا هذا الفهم، فإننا سنخسر الكثير.