في مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المجتمعات اليوم، أصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية التصدي للمشكلات الكبرى. لم تعد الحكومات وحدها قادرة على تحمل عبء التحديات المجتمعية، سواء كانت "اقتصادية أو بيئية أو اجتماعية". بل يتطلب الأمر تعاونًا وثيقًا بين القطاعين العام والخاص، ومنظمات المجتمع المدني. هذا التحول يمثل ما يمكن تسميته بـ "ثورة الحل"، حيث يصبح التعاون والشراكة بين مختلف القطاعات مفتاحًا لحل المشكلات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
قبل خمسة عشر عامًا، بدأت مع الأستاذة رولا المعايطة، مستشارة التميز المؤسسي، رحلة مميزة في مجال المسؤولية المجتمعية للمؤسسات. معًا، قمنا بتأليف أول كتاب باللغة العربية يتناول هذا المفهوم بعمق، تحت عنوان "المسؤولية المجتمعية للمؤسسات" وكيفية تطبيقه في بيئة العمل. كما قدمنا مئات الدورات التدريبية في الأردن والوطن العربي، مساهمين في نشر الوعي وتطبيق هذا المفهوم المهم في مختلف المؤسسات.
تاريخيًا، كانت العلاقات بين الحكومات والأعمال التجارية تعتمد على التفاوض والتعاقد والتنظيم والإنفاذ. هذه العلاقة التقليدية غالبًا ما كانت تقتصر على تبادل المنافع الاقتصادية وتنظيم النشاطات التجارية. ولكن مع مرور الوقت، بدأت هذه العلاقة تتغير بشكل جذري. اليوم، نرى أن العلاقات بين القطاعين العام والخاص تبدأ بشكل متزايد من الخلق المشترك للمصالح المشتركة، وهو تحول يتطلب من الحكومات إعادة التفكير في كيفية التعامل مع القطاع الخاص، وخاصة فيما يتعلق بالمساءلة والشفافية.
تُعد السويد من الدول الرائدة في مجال المسؤولية المجتمعية، كنت في احتدى المنتديات سألت السفير السويدي بالكويت عن سر نجاح بلدهم بتطبيق المسؤولية المجتمعية، فكان الجواب انه تلتزم الشركات في السويد بتقديم تقارير سنوية حول استدامتها البيئية وتأثيرها الاجتماعي. القوانين السويدية تلزم الشركات الكبرى بإظهار التزامها بالمسؤولية المجتمعية من خلال مبادرات ملموسة، مثل تقليل البصمة الكربونية، والمساهمة في التنمية المستدامة.
وايضاً تعد رواندا مثالاً آخر على دولة قامت بتطبيق المسؤولية المجتمعية بفعالية. بعد الإبادة الجماعية، اتخذت الحكومة الرواندية خطوات جادة لتعزيز المسؤولية المجتمعية، مما ساهم في جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. تمثل مبادرات مثل "Umuganda" التي تجمع المجتمع المحلي للعمل التطوعي، نموذجًا فريدًا للمسؤولية المجتمعية التي تعزز الوحدة والتنمية.
مع تزايد اهتمام الشركات بالقيم الاجتماعية والبيئية، بدأت المزيد من الشركات بتخصيص موارد لمعالجة المشكلات المجتمعية. في الماضي، كان قادة الأعمال يتركون القضايا المجتمعية للحكومات والمنظمات غير الحكومية، معتقدين أن هذا ليس من شأنهم. ولكن هذا النهج بدأ يتلاشى تدريجيًا مع مرور الزمن، حيث أصبح لدى الشركات قناعة بأن النجاح المالي لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التأثير الإيجابي على المجتمع والبيئة.
في عام 2013، كتب ويليام إيجرز كتابًا بعنوان "ثورة الحل"، صدر عن مطبعة هارفارد للأعمال، حيث شرح بالتفصيل هذا المشهد الجديد لحل المشكلات المجتمعية. أشار الكتاب إلى أساليب جديدة قادها رواد الأعمال، من إنشاء المؤسسات الاجتماعية إلى تطوير الشركات الكبرى التي تركز على الغرض والقيمة المشتركة. خلال العقد الذي تلا صدور الكتاب، تسارعت هذه الاتجاهات بشكل كبير.
بدأت المزيد من الشركات تسعى لتحقيق ما يُعرف بـ "خط الأساس الثلاثي"، وهو مفهوم يشير إلى أن الشركات تسعى لتحقيق الفوائد "المالية والاجتماعية والبيئية" معًا. لم يعد التركيز فقط على الأرباح المالية، بل أصبح لزامًا على الشركات الكبيرة قياس آثارها البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) والإبلاغ عنها بشكل علني. في عام 2020، أصدرت المائدة المستديرة للأعمال بيانًا جديدًا حول "غرض الشركات"، حيث التزم 239 رئيسًا تنفيذيًا بتقديم قيمة طويلة الأجل لجميع أصحاب المصلحة - من العملاء والموظفين إلى الموردين والمجتمعات والمساهمين.
في حين أن المتعاملين والمستثمرين يلعبون دورًا رئيسيًا في دفع هذا التغيير، فإن الموظفين أيضًا كانوا محفزًا قويًا نحو تبني رأسمالية أصحاب المصلحة. لقد أثرت الضغوط الداخلية في الشركات على كل شيء من ممارسات التوظيف إلى سلاسل التوريد الأخلاقية. أظهر استطلاع أجرته شركة إيدلمان عام 2021، وشمل 16,800 شخص، أن 80% من الموظفين يتوقعون من صاحب العمل اتخاذ إجراءات بشأن قضايا مثل تغير المناخ والعنصرية. علاوة على ذلك، فإن الجيل القادم من الموظفين يرغبون في العمل في شركات تعزز قيمهم، وليس فقط تدفع لهم رواتبهم.
في عالم يتجه نحو نموذج "الحكومات المختلطة"، تبرز الحكومات الأكثر نجاحًا تلك التي تتمتع بفهم عميق لهذا المشهد الجديد، وتعمل على تطوير المهارات والهياكل والمؤسسات التي تمكنها من الاستفادة القصوى من مساهمات القطاعات الأخرى في تحقيق التأثير المجتمعي. إن "ثورة الحل" ليست مجرد مبادرة تخص الشركات أو الحكومات وحدها، بل هي حركة جماعية تهدف إلى بناء مستقبل أفضل من خلال التعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات. يجب أن ندرك أن التصدي للتحديات الكبرى يتطلب تحولاً جذريًا في طريقة التفكير والعمل، وأن مد الجسور بين القطاعات الثلاث، والعمل على إحداث "ثورة الحل"، يشكل دعوة ملحة للعمل الجماعي والشراكة بين الحكومات، القطاع الخاص، والمجتمع المدني، لتحقيق تأثير حقيقي ومستدام يعود بالفائدة على الجميع. كما يجب أن نتحمل مسؤوليتنا في الحفاظ على كوكب الأرض، ونسعى جاهدين لتركه في حالة أفضل للأجيال القادمة، ليعيشوا في عالم أكثر استدامة وازدهارًا.
* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتطوير/ كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.