رحلة التحديث: قصة إرادة ملك ووطن ..
حاتم القرعان
20-08-2024 07:19 PM
في ليلة شتوية هادئة، جلس الملك عبدالله الثاني في مكتبه بالقصر الملكي في عمّان، يتأمل التحديات الهائلة التي تحيط بالأردن.
كانت الرياح تعصف خارج النوافذ، تحمل معها أصداء مدينة يحبها بكل تفاصيلها. نظر الملك إلى صور أجداده المعلقة على الجدران، وأحس بثقل المسؤولية التي ورثها عنهم. لم تكن هذه أوقاتًا عادية، فالأزمات كانت تحاصر الأردن من كل جانب. الحرب في سوريا تدمر البلاد وتهدد الحدود الشمالية، العراق يعيش في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي يشتعل مرة أخرى، مهددًا الأمن الإقليمي. وفي ظل هذه الظروف الصعبة، كان الاقتصاد الأردني يعاني من ضغوط غير مسبوقة بفعل تدفق اللاجئين وانخفاض المساعدات الخارجية. ومع كل هذا، ظل الملك مصممًا على قيادة بلده نحو مستقبل أفضل، مؤمنًا بأن الأردن قادر على مواجهة هذه التحديات بروح الوحدة والتضامن.
أدرك الملك عبدالله الثاني أن التحديات لا يمكن مواجهتها بالطرق التقليدية. العالم من حوله يتغير بسرعة، ومعه تتغير طموحات وتطلعات الشعب الأردني. لم يكن الملك يريد فقط أن يواكب هذه التغيرات، بل أراد أن يقودها، وأن يجعل من الأردن نموذجًا يحتذى به في المنطقة. رؤيته للتحديث الشامل بدأت تتبلور في عقله، لتشمل الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري، مؤمنًا بأن كل جانب من هذه الجوانب يعزز الآخر.
بدأ الملك رحلة التحديث من قلب النظام السياسي. كان يعلم أن السياسة هي المحرك الأساسي لأي مجتمع، وهي القادرة على إحداث التغيير الحقيقي. تأمل في معنى الديمقراطية الحقيقية، ورأى أنها ليست مجرد انتخابات تُجرى بين الحين والآخر، بل هي نظام حياة يتطلب إشراك المواطنين في كل جوانب صنع القرار. أراد الملك أن يكون لكل أردني صوت مسموع، وأن يجد كل مواطن الفرصة للمساهمة في بناء الوطن. قرر أن يعزز دور الأحزاب السياسية، وأن يشجع على نموها وتطورها، طامحًا إلى أن يرى برلمانًا يعكس تنوع المجتمع الأردني ويمثل جميع شرائحه بشكل عادل.
في هذا السياق، دعا الملك إلى سلسلة من الإصلاحات السياسية الشاملة. كانت البداية بتطوير نظام الانتخابات ليكون أكثر شفافية وعدالة، مما يتيح للمواطنين اختيار ممثليهم بحرية ونزاهة. لم يكن هذا الإصلاح سهلاً، فقد تطلب حوارًا وطنيًا واسعًا، يجمع بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية. كان الملك حريصًا على أن يشمل الحوار كل الفئات، من الشباب والنساء إلى ممثلي الأحزاب والنقابات، مؤمنًا بأن المشاركة الواسعة هي السبيل الوحيد لبناء توافق وطني قوي.
في الوقت نفسه، كان الملك يسعى لتعزيز سيادة القانون في جميع جوانب الحياة العامة. كان يؤمن بأن العدالة هي الركيزة الأساسية لأي نظام سياسي ناجح، وأنه لا يمكن تحقيق الاستقرار والتنمية دون وجود نظام قانوني قوي يحمي حقوق المواطنين ويضمن المساواة بينهم. من هنا، بدأت جهود الملك في تعزيز استقلالية القضاء وتحديث القوانين لضمان حقوق الأفراد والجماعات.
ومع تقدم العمل على الإصلاحات السياسية، لم يغفل الملك عن التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه الأردن. كان الاقتصاد بحاجة إلى نهضة جديدة، تتجاوز الأفكار التقليدية وتستجيب للمتغيرات العالمية. جلس الملك مع مستشاريه الاقتصاديين، يتداول معهم في كيفية تحويل الاقتصاد الأردني إلى اقتصاد حديث ومتعدد المصادر.
كان الملك يؤمن أن الاقتصاد الأردني يجب أن يتحرر من الاعتماد على القطاعات التقليدية، وأن يفتح أبوابه أمام الابتكار والتكنولوجيا. لم يكن ينظر إلى المستقبل فقط من زاوية التحديات، بل كان يرى فيه فرصًا هائلة يمكن للأردن استغلالها. بدأ بوضع استراتيجية شاملة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، وتعزيز دور القطاع الخاص كشريك أساسي في التنمية الاقتصادية.
ولتحقيق ذلك، أطلق الملك عددًا من المبادرات الاقتصادية التي تستهدف دعم ريادة الأعمال وتشجيع الابتكار. كان يطمح إلى أن يرى الشباب الأردني يطلق مشاريعه الخاصة، ويبتكر في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة والصناعات الإبداعية. أدرك الملك أن المستقبل يكمن في اقتصاد المعرفة، وأن الأردن يمتلك العقول القادرة على صنع التغيير إذا ما أتيحت لها الفرصة المناسبة.
إلى جانب دعم الابتكار، عمل الملك على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى الأردن، مؤمنًا بأن التعاون الدولي يمكن أن يعزز من قدرات الاقتصاد الوطني. قام الملك بزيارات متعددة إلى دول العالم، عارضًا الفرص الاستثمارية الكبيرة التي يتيحها الأردن، سواء في مجال السياحة أو الصناعة أو البنية التحتية. كان يعرف أن تحسين البيئة الاستثمارية يتطلب تحسين البنية التحتية، لذلك أطلق مشاريع ضخمة في مجالات النقل والطاقة والمياه، مما جعل الأردن وجهة جاذبة للمستثمرين من مختلف أنحاء العالم.
ومع تقدم مشاريع التحديث السياسي والاقتصادي، أدرك الملك أن النجاح الحقيقي يتطلب وجود جهاز إداري فعال قادر على تنفيذ الرؤى والخطط. كان يعرف أن البيروقراطية التقليدية والفساد هما العائقان الرئيسيان أمام تحقيق أي تقدم، لذلك جعل من التحديث الإداري أولوية قصوى.
بدأت جهود الملك بتطوير نظام الخدمة المدنية، حيث عمل على تحسين أداء الموظفين الحكوميين من خلال برامج تدريبية مكثفة تهدف إلى رفع كفاءاتهم وتحديث مهاراتهم. كان يؤمن بأن الاستثمار في العنصر البشري هو المفتاح لبناء جهاز إداري قادر على مواجهة التحديات الجديدة. إلى جانب ذلك، عمل على تبسيط الإجراءات الحكومية، لجعلها أكثر كفاءة وشفافية. أراد أن يشعر المواطن الأردني بأن حكومته تعمل لخدمته، وأنها تستجيب لاحتياجاته بسرعة وفعالية.
وفي إطار مكافحة الفساد، أطلق الملك حملة شاملة تهدف إلى تعزيز النزاهة والشفافية في جميع مؤسسات الدولة. كان حريصًا على أن يرى كل مواطن أن الحكومة تعمل على حماية حقوقه ومحاربة الفساد بكل أشكاله. ولتحقيق ذلك، تم تطوير القوانين والأنظمة المتعلقة بمكافحة الفساد، وتفعيل دور الهيئات الرقابية لضمان المحاسبة والمساءلة.
وبعد سنوات من الجهود المتواصلة، بدأت ثمار التحديث الشامل تظهر في مختلف جوانب الحياة الأردنية. كانت الشوارع تعج بالشباب الذين أطلقوا مشاريعهم الخاصة، وتحولت الأردن إلى مركز إقليمي للابتكار والتكنولوجيا. وفي الوقت نفسه، شهدت الحياة السياسية انفتاحًا كبيرًا، حيث أصبحت المشاركة الشعبية أوسع، وأصبح للمواطنين دور أكبر في صياغة السياسات العامة. أما الجهاز الإداري، فقد أصبح أكثر كفاءة وشفافية، مما ساهم في تحسين الخدمات العامة وتعزيز الثقة بين المواطنين والحكومة.
لكن الملك عبدالله الثاني لم يتوقف عند هذا الحد. كان دائمًا يردد أن التحديث هو عملية مستمرة، وأن الزمن لا ينتظر. كان يؤمن بأن الأردن، بوحدته وقوة شعبه، قادر على مواصلة الرحلة نحو المستقبل، وأنه لا يوجد حد لما يمكن تحقيقه إذا ما تضافرت الجهود واتحدت الإرادة.
هكذا، تحولت رؤية الملك عبدالله الثاني للتحديث الشامل إلى قصة نجاح ترويها الأجيال. قصة قائد قاد وطنه في أصعب الأوقات، وأطلق مسيرة لا تتوقف نحو المستقبل. إنها قصة الأردن الذي يتطلع دائمًا للأمام، يسعى لتحقيق أحلام أبنائه، ويبني على أسس قوية من العدالة والمساواة والتنمية المستدامة. إنها قصة وطن يجدد نفسه كل يوم، ويثبت للعالم أن الإرادة والعمل الجاد قادران على تحقيق المستحيل.
حفظ الله الأردن وحفظ الله جلالة الملك عبدالله الثّاني بن الحسين وولي عهده الأمين.