سياسة المصطلحات .. حينما تُغيّر الكلمات مسار الحقائق
محمود الدباس - ابو الليث
20-08-2024 11:35 AM
في عالم المصطلحات.. نجد أن الكلمات ليست مجرد حروف تُجمّع لتكوين معنى.. بل هي أدوات تُشكّل بها الرؤى والاتجاهات.. وتُرسم بها السياسات.. وتُحدد بها المواقف.. فمصطلح واحد.. يمكنه أن يقلب الحقائق.. ويغير النظرة العامة تجاه قضية معينة..
لنأخذ على سبيل المثال "جيش الدفاع الإسرائيلي".. إنه مصطلح يبعث في النفس شعوراً بالشرعية.. وكأن هذا الجيش وُجِد للدفاع عن وجود دولة مهددة.. وليس لفرض احتلال على شعب بأكمله.. إنه مصطلح يحمل في طياته رسالة تُبرر كل الأفعال التي يقوم بها هذا الجيش.. تحت ذريعة الدفاع.. ومن هنا.. يمكن أن نفهم لماذا يُصرّ الإعلام الإسرائيلي وحلفاؤه على استخدام هذا المصطلح.. فهو ليس مجرد اسم.. بل أداة تسويق سياسي.. تعزز شرعية دولة على حساب حقوق شعب آخر..
وعلى الجانب الآخر.. نجد مصطلح "الناجون من الهولوكوست".. هذا المصطلح يوقظ في الذاكرة البشرية مشاعر الأسى والتعاطف.. إنه مصطلح لا يترك مجالاً للشك أو السؤال عن الأسباب.. بل يُرسّخ في الأذهان صورة الضحية البريئة.. وبالتالي.. يُستغل هذا المصطلح في بناء دعم دولي وسياسي.. وحتى عسكري.. للدولة الإسرائيلية "الكيان المصطنع".. ويُغلق الباب أمام أي محاولة لمراجعة التاريخ.. أو التفكير بشكل نقدي في الأحداث.. وأسباب تلك الفعلة..
وفي مقابل ذلك.. لماذا لا يتم استخدام مصطلح "الناجون من النكبة"؟!.. أليس من حق الفلسطينيين الذين فقدوا ديارهم وأرضهم وأحلامهم.. أن يُنظر إليهم كناجين من مأساة؟!.. لكن بدلاً من ذلك.. يُستخدم مصطلح "لاجئين".. وهو مصطلح لا يحمل نفس الثقل الإنساني.. ولا يُثير نفس مستوى التعاطف.. فهو مصطلح يُخفّف من وطأة الجريمة التي ارتُكِبت بحقهم.. ويُقلل من حجم المعاناة التي عاشوها..
وهناك مثال آخر على ذلك في السياق الاجتماعي.. حيث نجد مصطلح "سحيج" الذي يُطلق على أي شخص يمتدح مسؤولاً أو شخصية اجتماعية.. أو حتى مؤسسة وطنية.. عندما يرى شيئاً إيجابياً.. هذا المصطلح يحمل في طياته إساءة تقلل من قيمة الرأي الإيجابي.. وتزرع الشك في نوايا الشخص المادح.. فبدلاً من تشجيع الروح الإيجابية والنظرة البناءة.. يقوم من يُطلقون هذا المصطلح بقتل تلك الروح الإيجابية.. وتدمير النظرة المتفائلة.. مما يدفع الناس لتجنب التعبير عن آرائهم الإيجابية.. خوفاً من إلصاق هذه الصفة بهم..
هذه ليست مجرد أمثلة عابرة.. بل هي جزء من لعبة أكبر.. تلعبها الدول والمنظمات لتشكيل الرأي العام وتوجيهه.. فحتى في الاقتصاد والسياسة.. تُستخدم المصطلحات لخلق انطباعات معينة.. لنأخذ مثلاً على ذلك.. مصطلح "الإصلاح الاقتصادي".. هذا المصطلح يُستخدم لتجميل إجراءات التقشف وزيادة الضرائب.. وكأنها حلول لتحسين الوضع الاقتصادي.. بينما في الواقع.. قد تكون تلك الإجراءات تزيد من معاناة الفقراء وتُثري الأغنياء..
وفي السياق نفسه.. نرى استخدام مصطلحات مثل "حفظ الأمن والنظام" لتبرير قمع الحريات.. وقمع المظاهرات السلمية.. في بعض الأنظمة السياسية.. يُبرر استخدام العنف ضد المدنيين بأنه لحفظ النظام.. مما يقلب الحقائق رأساً على عقب.. ويجعل من الجلاد حامياً للسلام..
كذلك.. نجد مصطلح "التأقلم مع الظروف الاقتصادية".. والذي يستخدمه الساسة في بعض الدول.. لوصف حالة الفقر المتزايد بين الطبقات العاملة.. هذا المصطلح يُخفف من قسوة الواقع.. ويُضفي طابعاً طبيعياً على حالة العَوَز.. وكأن الفقراء بحاجة فقط للتأقلم مع هذه الظروف.. بدلاً من المطالبة بحقوقهم..
إذا أردنا أن نكون دقيقين في فهم الأحداث والسياسات.. علينا أن ننتبه إلى المصطلحات المستخدمة.. ونسأل دائماً عن الرسالة الحقيقية التي يُراد إيصالها من خلالها.. لأن الكلمات ليست بريئة.. بل هي سلاح قوي.. ويمكن أن يخلق أبطالاً.. أو يخلق ضحايا.. يبرر الحرب.. أو يدعو للسلام.. يشرعن الاحتلال.. أو يناضل من أجل الحرية..