تتداخل في مجتمعاتنا أصوات متعددة.. بعضها يعبر عن حنق وغضب.. فيتحول إلى صخب يعمي العيون.. ويصم الآذان.. ظناً من أصحابه أن هذا هو الطريق الصحيح لمعارضة الفساد.. وفضح الأخطاء.. يظنون أن رفع الصوت بالسباب والإهانة.. هو ما يجعل منهم معارضين أقوياء.. وأن الشتائم الموجهة للمسؤولين.. هي السبيل الوحيد لإثبات موقفهم.. لكن هؤلاء يغفلون عن حقيقة.. أن المعارضة ليست في الصراخ والشتم.. بل في المواقف المدروسة.. والنقد الهادف.. الذي ينبثق من عمق الحكمة والمسؤولية.
المعارضة الحقيقية ليست في الكلمات الجارحة.. ولا في الاتهامات العشوائية التي تنال من كرامة الناس.. وليست في الانجرار الى مستنقع البذيء من الكلام.. بل هي في كشف الحقائق.. وتعرية الأخطاء بصدق ودقة.. دون النزول إلى مستوى الإساءة الشخصية.. إنها تلك الكلمة التي.. رغم قسوتها.. تبقى محترمة.. تُعلي من شأن الفكرة.. وتنير الطريق أمام الإصلاح.
خذ مثلاً.. الكاتب الذي ينقد سياسات الحكومة بأسلوب مهني بحت.. يكشف الحقائق.. ويفند الادعاءات.. دون أن يمس كرامة أحد.. رغم أن كلماته قد تكون قاسية أحياناً.. إلا أنها تظل بعيدة عن التجريح الشخصي.. ما يجعل المسؤولين يتأملونها بجدية.. ويتعلمون منها.. هؤلاء الكتاب لا يتلقون تقديراً من العامة فحسب.. بل يُنظر إليهم كأصوات ضميرية للأمة.. تحظى باحترام حتى من أولئك الذين ينتقدونهم.
على النقيض.. هناك من يعتقد أن المعارضة تعني التهجم على الأشخاص.. لا على أفعالهم.. هؤلاء يظنون أن التفنن في الشتم والقدح.. هو ما يعطيهم القوة والمصداقية.. لكنهم في الحقيقة يضرون أنفسهم أكثر مما يضرون من يعارضونهم.. فهم لا يسهمون في تحسين الواقع.. ولا يفتحون أفقاً للحوار البناء.. بل يزيدون من حدة الاستقطاب والفوضى.. إنهم مثل الشاعر الذي يملأ قصيدته بالسباب والشتائم.. أو الكاتب الذي لا يملك سوى كلمات القدح.. فيبدو وكأنه يفتقر إلى الحجة والدليل.. متشبثاً فقط بغضبه.
وليس من العجب أن نجد من يشجع هؤلاء.. معتبراً أن الصوت العالي.. هو الطريق الأسرع للتغيير.. ولكن الحقيقة أن هذه الأصوات.. تنفر أكثر مما تقنع.. وتثير العداوة.. أكثر مما تبني الجسور.. فالمعارضة التي ترتكز على الشتائم والصراخ.. لا تؤدي إلا إلى تعميق الانقسام وزيادة التعنت.
في نهاية المطاف.. علينا ان نعي.. بأن المعارضة الإيجابية.. هي التي ترتقي بالحوار.. وتبني النقد على أساس من الأدلة والاحترام المتبادل.. إنها المعارضة التي تستطيع أن تحدث فرقاً حقيقياً.. لأنها تفهم أن الهدف هو الإصلاح.. لا مجرد التفريغ العاطفي.. وإذا أردنا حقاً أن نرى تغييراً.. فعلينا أن ندرك.. أن الكلمة الطيبة.. والنقد البناء.. لهما من القوة ما لا تملكه كل الشتائم في الدنيا.