تهيئة الفكر لصعود الحرية .. (10)
جياد آدم
09-08-2007 03:00 AM
"المثادية" .. أو الفلسفة الثالثة بين "المِثالية" و "المادية" هناك فلسفتان كبريان تتقاسمان مساحات العقل والوعي هما : المادية والمثالية..
الأولى ترى انه لا وجود للأشياء خارج حدود المادة حتى الفكر ذاته ما هو إلا انعكاس للمادة في الوعي بالتالي فهي تحيل المعرفي للوجودي بالكامل . حيث المادة هي علة الوعي والمعرفة وكل شيء.
أما الثانية فترى انه لا وجود لشيء سوى الفكر بينما المادة ليست سوى صورة الفكر وتجل من تجلياته.. أو مجرد حامل للفكرة.. أي هي ما قد تصوره الفكر فكان .. ولولا أن الفكر تصوره لما كان .. فهي تحيل الوجودي للمعرفي .. فالأبستمولوجي بالكامل هو علة الأنطولوجي بالكامل .. ولا وجود لشيء خارج الوعي .. أو لا وجود لشيء لم يتم تعقله وإدراكه مسبقا كعلة لوجوده وإلا لما كان .. بالتالي فالمعرفة علة للوجود المادي وغير المادي .. ولا بد لكي يوجد الشيء أن يمر بطور الفكرة كما يمر الكائن الحي بطور الجنين مثلا .
ولكل من الفلسفتين أنصارها والمؤمنين بها .. لكن باعتبار أن المادية تنفي وجود أي شيء خارج المادة أو ما وراءها ومنها الغيبيات كالروح مثلا .. بالتالي يمكن اعتبار أنصارها أقل عددا من المثالية باعتبار المؤمنين لا يمكن أن يتفقوا مع طرح المادية أو يكونوا من أنصارها بقصد منهم أو بغير قصد كونهم يؤمنون بالروح وبوجود إرادة واعية فكرت في الكون فكان كما فكرت به .. فإذا أضفنا للمؤمنين الذين قلنا أنهم تلقائيا ليسوا من أنصار المادية..أنصار المثالية ذاتها كفلسفة وفكر كان مجموع مؤيدي المثالية وجمهورها أكبر وأكثر عددا.
وفي المثالية .. فكل ما هو كائن كان هكذا لان ثمة من فكر به هكذا .. ولو فكر به على نحو آخر لكان كما فكر به..وهو معنى "كن فكان" .. وبالتدقيق نجد هذا صائبا إلى حد بعيد..فبالعودة إلى مقولة "كيفما نفكر فإننا نكون " نجد ثمة جانب إيجابي في الفكرة يكمن في فكرة أننا نحن من نخلق واقعنا ونصنعه..بالتالي هو يعطي للإنسان دور مهم في صنع وتقرير مصيره .. وربما تكون هذه هي أعظم نقاط التقاء الفلسفتين المادية والمثالية بخصوص موضوعنا.. باعتبار المادية بدورها تفسر سيرورة التاريخ بأن تعزوه لمجموع حركة وأفكار ومصالح الناس وسعيهم لتحقيق تلك الأهداف والأفكار والمصالح وترجمتها عمليا.
ولو أخذنا كمثال التطبيق السياسي للمسألة على نموذج الاستبداد كمثال أيضا.. سنرى كيف أنه للتفكير دوره في دعم الاستبداد أو نزع الدعم عنه ..بالتالي في جعلنا نعيش واقع استبدادي او واقع تحرري .. فحينما أؤمن أنك سيد ولك علي حق ذلك وأنا تابع وعلي لك واجب ذلك فكيف يمكن أن يتغير ذلك ؟؟ إنه حتى لو أتي من يغيره بالقوة فلن يفلح حتى أغير ما بعقلي أو نفسي من فكرة .. وكمثال مرة أخرى فحينما نتوقف عن التفكير أن السلطة هي وكيلة الله أو القدر وصاحبة حق مطلق ونحن مدينون لها بذلك . ونفكر بها على نحو آخر كوكيل عنا ومكلف من قبلنا .. فقط إذا فكرنا هكذا سيتغير الكثير ..حتى لو مجرد تفكير فقط ..لأننا حينما نفكر كذلك سنمتنع عن أن نمدها بالدعم الذي كان يحركنا له تفكيرنا السابق في أنها موكلة من الله ولها علينا حق ذلك الدعم لدرجة إذا لم نفعل نشعر بأننا ارتكبنا إثما أو سلوكا خلقيا مرفوضا وشائنا .
هذه الإحالة على الفكر من قبل الفلسفة المثالية والتي قلنا أنها فلسفة أكثر أنصارا من المادية قلنا هم أغلبية البشر ، على عكس ما تذهب له المادية .. وبغض النظر عن مسألة من منهما الأصح ، لكنها على كل حال ترينا مدى أثر وأهمية التفكير ليس في تشكيل وصنع الواقع بل وفي تغييره أيضا ..سواء كان هو واقع الإنسان الفرد أو واقع الجماعة .. وهو بالأساس الجانب الذي لأجله سقت الحديث عنهما.
وكان التاريخ يُفسَّـر تفسيرا ميثولوجيا بالكامل في العصور الغابرة.. فتفسر الهزائم على أنها غضب الآلهة على البشر أو يفسر المحل على انه جفاف دموع آلهة المطر مثلا .. وهكذا.. لذا كانت تقدم القرابين للأنهار عند فيضانها وللشمس والقمر عند كسوفها وخسوفها بحيث يبدو الإنسان مستسلما للطبيعة وللقدر بشكل نهائي وكلي بلا أي دور..وقد كان هذا التفكير بدوره نسقا وطريقة حياة أي كينونة كاملة ووجود .. بمعنى ما دام هكذا كان يفكر الإنسان فإن كيانه بدوره هو هكذا .. أي مادام يفكر أنه ليس بمقدوره صنع شيء فلن يكون ذلك بمقدوره فعلا ..وبالفعل هكذا كان .. كيانا ميثولوجيا وحياة أسطورية بالكامل..الإنسان فيها تابع للطبيعة والقدر من خلال نسق تفكيري يشل إرادته تماما.
ولما جاء عهد الرسالات السماوية حل التفسير الديني محل الميثولوجي والذي أقر بمبدأ وجود ذات وقوة عظمى فكرت بالكون على نحو ما فكان كما فكرت به أو تصورته أي "خلقت" الكون من فكرة .. فوحّدت الخلق في إله واحد بدلا من آلهة متعددة كما في الميثولوجيا ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حاولت أعادة الاعتبار للإنسان وأرادت أن تجعل مع الدعاء شيئا من القطران بحيث لم تجعل الإنسان مستسلما بالكامل للطبيعة أو للظواهر بل إلى جانب أنها دعت للإيمان بتفسير ظواهر الطبيعة باعتبارها من خالق مقتدر.. فقد حاولت أن تغرس في وعي الإنسان قدرته على النظر والتصرف والتدخل بها بحدود معينة .. فالإنسان حر إلى حد ما وهو يصنع خاتمته ومصيره وفقا لأعماله .. فالدين يقوم على ساريتين الإيمان والعمل والإيمان يشمل الغيبيات والقدر لكن العمل بدوره يتضمن في طياته إقرارا بدور الإنسان في صنع مصيره وحريته وإرادته وأثر تلك الحرية والإرادة وهو معنى انه مكلف ومسؤول عن عمله أي بمعنى انه حر.
فما الذي حصل إذا ؟؟
قلنا في الحلقة السابقة (9) وفي الفقرة الأخيرة منها أن الثقافة اختطفت –والدين أحد مركبات الثقافة وعناصرها المهمة .. وفي أمتنا العربية فالدين هو معظم الثقافة وهو ما يشكل عقل ووجدان الإنسان بالكامل تقريبا – فمن هذا الاختطاف أن بعض المذاهب فيما بعد جنحت إلى تعظيم الجانب القدري والتقليل من شأن الجانب الآخر إلى حد إلغائه بالكامل أحيانا .. وأقصد به ذلك الجانب الذي يعلي من قدرة وإرادة الإنسان وتأثيره في صنع واقعه .. بينما سعت- أي تلك المذاهب- لتعظيم الجانب الأول الذي يفسر أحداث التاريخ تفسيرا قدريا إلى حد أنه لا جدوى من تدخل أو محاولة الإنسان.. بمعنى إعلاء دور القدر والخالق في تقرير مصير الإنسان وكل ما يحصل له والتقليل من دور إرادة الإنسان ذاته في صنع وتقرير هذا المصير والتأثير فيه. وهو التفكير الذي يغلب ويسود بالمناسبة حتى الآن على العقل العربي كعقل قدري بنسبة كبيرة منه..ولهذا حكاية طويلة .. ذلك أن تلك المذاهب التي حرفت الفكر الديني عن مساره الصحيح كانت تلتقي في طرحها مع توجهات السلطة .. من حيث أن القدرية كحزمة متكاملة وحيث السلطة فيها بدورها هي وكيلة لله في الناس وواجبة الطاعة حتى لو كانت طاغية - حتى لو جلد ظهرك وأخذ مالك- هي تخدم السلطة المستبدة وتعطيها قوة وشرعية .. لذا فقد دعمت تلك السلطة مثل ذلك التوجه والتيار في الدين كونه يخدمها بينما أضعفت ورمت إلى النسيان والإهمال المتعمد التوجه والتيار الآخر الذي إلى جانب الإيمان أراد أن يعطي للإنسان والعقل دورا وأهمية في التأثير بمجرى التاريخ وصنعه .. وهكذا وبحلف معلن وغير معلن بينهما فقد اختطف الساسة والفقهاء الدين وأدخلوه النفق ..,
وللحديث بقية..
jeaad@yahoo.com