رداً على رسالة عبدالهادي راجي المجالي بعنوان: الرجل الذي نحر الدبابة
يحيى الحموري
13-08-2024 09:34 AM
أنت الذي جعلت من الحروف سيوفاً تُشْهَر في وجه القهر، ومن الكلمات نداءات تستصرخ ضمائرنا النائمة. قرأت رسالتك يا عبدالهادي، وكأنني ألمس جراح الأمة التي نزفت حتى آخر قطرة، وكأنني أشم رائحة الدماء التي سُفكت على مذبح الحرية، وكأنني أشعر بنبض ذلك الفتى الذي حمل روحه بين يديه، واقتحم بها بوابة الموت بقدمين حافيتين.
يا عبدالهادي، رسالتك ليست مجرد كلمات تُقرأ، بل هي دموع أمة تُسكب، هي آهات أمهات دفنَّ أبنائهن بأيديهن العارية، هي صوت طفل لم يذق طعم الحليب بل شرب من كؤوس البارود، هي حكاية أمة انكسرت دون أن تنحني.
ذلك الفتى الذي نحر الدبابة يا عبدالهادي، لم يكن بشراً عادياً، بل كان ملاكاً أرسلته السماء لتُذكّرنا بأن الموت في سبيل الحرية هو الحياة بعينها، وأن كل دبابة تُسحق تحت أقدام العزيمة، تتحول إلى شاهد على جبن الطغاة وعظمة الأبطال. هو لم يكن يحمل سلاحاً، لكنه كان السلاح ذاته، كان القنبلة التي انفجرت في وجه الصمت الدولي، وفي قلب عالم لا يعرف إلا لغة المصالح.
عبدالهادي، أرجوك قل لي: كيف يمكن لأحد أن يكتب عن هؤلاء الفتية ويظل قلبه سليماً؟ كيف يمكن لنا أن نقرأ عنهم ولا تنكسر قلوبنا ألف مرة في كل سطر؟ كيف لنا أن نعيش ونحن نعلم أن هناك من قدموا أرواحهم لنعيش نحن في أمان؟ نحن لا نستحق هذا الأمان يا عبدالهادي، لا نستحق الحياة بينما هناك من يذبح الدبابات بأيديهم العارية، ومن يقتلهم الجوع والعطش وهم متمسكون بالحياة من أجلنا.
كلما عدتُ لقراءة كلماتك، أشعر بأن الأرض تضيق بي، وأن السماء تبكي على حالنا. كيف نجرؤ على النوم في فراشنا الوثير، بينما هناك من ينامون على أصوات القذائف؟ كيف نجرؤ على التمتع بأبسط حقوقنا، بينما هناك من يسحقهم الحصار والجوع؟ أيّ قلب هذا الذي لا ينفطر ألماً حين يقرأ عن فتى من غزة يركض نحو الدبابة، ليذبحها كما تُذبح الخراف؟ أيّ روح هذه التي لا تذوب خجلاً وعاراً من أنفسنا؟
عبدالهادي، لقد وصفت ذلك الفتى بأعظم الأوصاف، ولكن لا كلمات ولا أوصاف تستطيع أن تعبر عن عمق فدائه. هو لم يكن من زمننا، نعم، هو كان من زمن الملائكة والشهداء، من زمن لا نفهمه نحن، زمن لا يتحدث بلغة الخوف بل بلغة التضحية. هو من زمن كاد أن يُنسى، زمن خالد بن الوليد وصلاح الدين، زمن لا يعترف بالنصر إلا إذا كان بعد تضحية عظيمة.
عبدالهادي، يا من كتبت بمداد الألم ودموعك تُخط بين السطور، دعني أقول لك: نحن هنا أحياء، لكن أرواحنا تائهة. نحن هنا نتنفس، لكن أنفاسنا مختنقة بعار الصمت. نحن هنا نعيش، لكننا في الحقيقة ننتظر الموت، لأن الحياة بدون كرامة ليست حياة. هذا الفتى الذي نحر الدبابة، أعاد إلينا بعضاً من كرامتنا المهدورة، أعاد إلينا معنى العزة والكرامة، ولكنه في ذات الوقت جعلنا ندرك كم نحن عاجزون.
عبدالهادي، صرختك هي صرخة الأمة، ودموعك هي دموع كل من عجز عن الفعل. نحن الآن نعرف، ولكن هل نجرؤ على التحرك؟ هل نملك الشجاعة لنقول لا كما قالها ذلك الفتى بفعله؟ هل نملك القوة لنقف في وجه الطغيان كما وقف هو أمام الدبابة؟ أم أننا سنظل نكتب ونبكي ونعجز عن التغيير؟
عبدالهادي، سأبكي معك، سأبكي بحرقة، لأننا نعلم أن كلماتنا مهما كانت قوية لن تعيد ذلك الفتى، لن توقف الدبابات، لن تحمي الأبطال. سأبكي معك لأننا نعيش في زمن لا يُنصف الأبطال، زمن يكرم الجلادين ويهين الشهداء. سأبكي معك لأننا ضعفاء، لأننا خذلنا من نحروا الدبابة ولم ننحر عجزنا.
عبدالهادي، يا ابن الأرض الطيبة، لا أملك سوى الدعاء بأن تجد كلماتك طريقها إلى قلوبنا، لعلها توقظ فينا ما تبقى من نخوة وشجاعة. لعلها تحرك فينا شيئاً، لعلها تدفعنا لفعل ما هو أكثر من البكاء والكتابة. دعنا نحمل رسالتك مشعلاً، لعلنا نجد في ظلام هذا الزمن نوراً يقودنا إلى حيث تستحق أمتنا أن تكون .