في باب التفكير خارج الصندوق
اللواء محمد البدارين
10-08-2024 08:54 PM
لا يحتاج المرء في الاردن ، لاستعمال ملكات الحفظ والاسترجاع ، لكي يستظهر محتويات الخطابات السائدة في البلاد ، فهذه المحتويات بكل اتجاهاتها المتفرنجة وغير المتفرنجة ، منفوخة بمفاهيم ومصطلحات ولوازم ، تتكرر كل يوم على المستويين الرسمي وغير الرسمي ، بدون اي التزام ، وبدون ضرورة في معظم الاحيان ، ويظل المفهوم او المصطلح قابلا للتداول والتكرار والاجترار ، حتى يتحول الى كلاشيه مجوّف عديم القيمة والتأثير ، وهكذا تموت الكلمات ، وتكف الحواس عن القيام بوظائفها الطبيعية.
وفي هذا الباب ، تقع العديد من المفاهيم المستعملة ، ومنها مفهوم ( التفكير خارج الصندوق ) المخصص لاظهار الناطق به على هيئة مفكر كبير ، وهو مفهوم مترجم بشكل حرفي ومنتشر في الأوساط العامة بشكل واسع النطاق ، ويعتبر استعماله بداع أو بلا داع علامة تقدمية للمتكلم ، والناس في بلادنا عموما يحفظون قهريا الكثير من المصطلحات والمفاهيم المجوّفة ، التي جرى استخدامها سابقا ، أو تلك التي يجري استعمالها حاليا بشكل عشوائي ومكثف وتعسفي ، من قبل معظم المتكلمين والمتكلمات و المتحذلقين و المتحذلقات.
على أن كل من هو على صلة بالواقع الفعلي في الاردن والدول العشرين الشقيقة ، يعرف جيدا ، أن حاجة هذه البلاد الماسّة هي للتفكير في البديهيات ، أو للتفكير في داخل الصندوق لا خارجه ، وفي قلبه بالتحديد ، ذلك ان كل مشاكل الحياة الحقيقية في بلادنا ، تقع في باب الأولويات البديهية والاساسيات ، الوارد ذكرها في المستويين الأول والثاني من هرم ماسلو ، ومثل هذه الأولويات لا تحتاج للتفلسف الزائد ، ولا للاستعانة بـمذاهب فكرية تقدمية أو رجعية مستجلبة من الخارج أو من الماضي ولا من الوهم والمجازات والخيالات ، ولا تحتاج للهروب إلى الأمام ولا إلى الخلف ، فهي تحتاج فقط للاستعمال الفطري التلقائي للبديهة الإنسانية السليمة الموهوبة للإنسان مجانا ، فمن خلالها يمكن التعرف بصورة طبيعية على ما يهم الناس وأحوالهم ، وحل مشاكلهم ، بما يشبه تقريبا التعرف على الجهات الأربع.
وهذا بالطبع ، طريق يتسم بالبساطة المفرطة ، لكنه بالطبع أصعب ، فالبساطة ليست سهلة ، أما ما هو سهل جدا فهو القفز المفاهيمي خارج الصندوق وخارج الذات وخارج حركة الواقع الحقيقي ، وبعيدا عن جهة القلب ، والإكثار من استخدام الحيل المفاهيمية واللغوية والبلاغية والرقمية ، لسد الفراغات الفاضحة واشغال المساحات المخصصة للفعل بسخيف القول والخطب ، وبمرور الزمن قد ينتج عن ذلك عمليات تخليط يومية بين الأشباه والمتشابهات والمشاكل والتحديات ، بما يخلق فرصا غنية للسخرية والنكتة ، ومثل هذا النوع من الأدب الشفوي العميق ظاهرة دخيلة على مجتمعنا ، ككل شيء لا نحب الاعتراف به فنسميه دخيلا .
في الاردن ، وسواه من بلداننا ، لا داعي للاستمرار بالمكر على الذات ، فالاحتياجات والمشاكل والتحديات ، تقع كلها في باب الاساسيات ، وحلها أو مواجهتها يقع في باب البديهيات ، والاساسيات والبديهيات ، لا تحتاج للشرح ، الا اذا صحّ في حالتنا قول القائل : فليس يصح في الافهام شيء.. اذا احتاج النهار إلى دليل.