لا يستطيع عاقل أن يشكّك بمكانة مصر المِحورية ، و دورها في ميزان عربّي غالبًا ما يهتز و نادرًا ما يعمّه السكون ، فمصر تمثل ثِقلا عربيّا في منطقة ملتهبة، و يُنظر اليها باعتبارها الوِحدة التي يتم بها تقييم الاستقرار العربي أو الشرق أوسطي بالتحديد , فيقال " إن كانت مصر مستقرة فالعالم العربيّ مستقرّ ".
منذ أن استلم الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر ، بعد ثورات متلاحقة حركّت ملايين المحروسة نحو الشارع , شهد الشارع المصري ذاته انقلابا جذريا على كافّة الاصعدة , انقلابيا سكانيا معماريا تطوريا اقتصاديا ثقافيا , فمن لم يزر مصر منذ عقد , بالكاد يستطيع اليوم التعرّف على شوارعها , فمصر التي كنّا نراها في الافلام تلك الشوارع الضيقة و الازقّة و العشوائيات , باتت اليوم شوارع عريضة و بنيان منظّم و مربعات عمرانية متناسقة .
فماذا كانت الفاتورة ؟
لم يمرّ يوم منذ أن استلم الرئيس السيسي زمام أرض الكنانة , دون أن يهاجم نظامه و تُلصق به كافّة الاتهامات , من خدش اصبع طفل في ترعة ! إلى اكبر القضايا و اعقدها , و هذا أمر طبيعي لرئيس استلم بعد أن طلب منه الملايين بعد النزول إلى الشارع عزل نظام سابق و استلام البلاد , لذلك قد يرى البعض أن تنظيم الاخوان المسلمين من الطبيعي ألّا يتقبلوا انتهاء فكرة حلموا بها لعقود و وصلت إليهم , كمن وصلت ملعقة العسل إلى لسانه و لم يستطع تمريرها نحو حلقه.
لا يمكن انكار أن البعض و خصوصا من لهم الحق في النقد من المصريين اصحاب الارض , يرون أن الاقتصاد المصري ليس ثابتا و العملة المصرية ليست في افضل حالاتها , و لكن , أليس لكل تطوير فاتورة ؟ فما هي فاتورة قلب البلاد رأسا على عقب ايجابيا ! ما هي فاتورة الشوارع المنظمة و الجسور و الانفاق , و بنية تحتية تليق بحضارة عنوانها " الدهشة" , فمصر التي لا تحتكم على موارد نفطية كدول الخليج , اتستطيع التطوير دون أن تضغط على نفسها و شعبها ؟
و السؤال هنا , أخرَجَتْ دولة من الربيع العربي بقوة و ثبات بلا حروب أهلية أو ناتو أو استعمار كما مصر و تونس ؟
فليبيا و اليمن و سوريا و العراق و لبنان و السودان , كلّها دول زارها الربيع العربي بشكل خاص أو الفوضى بشكل عام و ترك بصمة سوداء بها , لكن مصر بقيت ثابتة حتى لو مرّت بمخاض عسير , لكنّها وقفت و استقامت , و بعد تجارب عديدة في عالمنا العربي , يجب أن نعي أن الثورات لا تخدمنا أبدا , فإن وجد الفساد فهو ثقافة عامودية بنا نحن الشعوب قبل السياسيين , و هذا ليس دفاعا عن أي طرف بقدر ما هو تحليل منطقي للحالة العربية من ثقافة و سياسية و ديموغرافيا و اقتصاد.
ماذا يريدون من مصر ؟
بعد السابع من اكتوبر , اصبح ينظر الى مصر من تحت المجهر , فهوجمت عديد المرّات بسبب عدم فتح الحدود , و السؤال هنا " إن فتحت مصر حدودها و تدفّق سكان غزة نحو سيناء , و اقامت بعدها تل ابيب سدًّا مانعا لعودتهم , فما تأثير ذلك على القضية ؟ "
لو فعلت مصر ذلك لهوجمت بشكل اعنف و اتهمّت بالتآمر لتهجير سكان غزة , فأهل غزة خصوصا لا يجب أن يهجّروا فتسهل مهمّة الكيان الغوغائي في تل أبيب , بل على العكس يجب أن يبقوا لتبقى تلك الاحلام الاسرائيلية مجرّد " احلام ".
لم تكن علاقة مصر و حماس علاقة ودّية بشكل عام , لكنّها اتسمت ببعض التسهيل عبر العقود الماضية خاصة في عصر الرئيس مبارك, فشريان الانفاق المصري الغزّي كان المورد الرئيس لكل احتياجات حماس , لكن عقب الثورات و الاحتجاجات المصرية , شهد الشريط الفاصل بين غزة و مصر احداثا متطرفة تجاه الجنود المصريين , هذه الخطوات الغير محسوبة خلّفت توتّرات أدت إلى تدمير أغلب تلك الانفاق كنتيجة لاهتزاز الثقة .
لذلك نجد بأنّ بعد عملية طوفان الاقصى تهاجم كل من الاردن ومصر بشكل دوريّ و منظّم , فبعض الاطراف تريد نقل الصراع من داخل غزّة للمحيط , هذا النقل يسهّل الخطط التوسعية لدول باتت ترى في هذا الثنائي عقبة أمامها , فمصر الدولة الاقرب جغرافيا لغزة كانت لهم كما الاردن لأهل الضفة شريان حياة و منفذا نحو العالم.
لذلك , في المحصلة تحصل في كل بلد انحرافات , مؤسسية كانت أم محصورة في نطاق القرارات , لكن اليوم تقوم هذه الجهات بوضع أي انحراف تحت البوصلة للتهويل , و هذا التهويل المأمول منها زعزعة المنطقة لا يخدمنا بل يخدم حاملي الاجندات .