القادة ليسوا مجرد أفراد يشغلون مناصب عليا أو يمتلكون سلطات تنفيذية؛ بل هم أشخاص ملتزمون بتحقيق هدف، يمتلكون "قوة التأثير الكامنة فيهم"، ويستطيعون نقل قناعاتهم للآخرين من خلال الحماس، والتفاؤل، والإلهام، للوصول إلى هدف مشترك. يتطلب منهم اتخاذ موقف ريادي في أي صراع، وهذا يعني المواجهة، والتغيير، وتسوية الصراعات، وإعادة إنتاجها بذكاء وقوة. قد يكون ذلك على حساب الحرية والمصلحة الشخصية، غير أن القائد الحقيقي يقبل كل الظروف كجزء من عمله، فهو الذي يحدد المسار، ويختار أن يصنع المقدمات التي ستفضي إلى النتائج.
وضعت المؤسسة الأوروبية لإدارة الجودة سبعة ركائز أساسية لتحقيق التميز المؤسسي واستدامة النجاح، ومن أهمها "القيادة برؤية ونزاهة وإلهام". قد تمتلك المؤسسة كافة مقومات النجاح، ولكن إذا كان قادتها ضعفاء وغير مدركين لدورهم في النجاح المؤسسي، عندها سيكون الإخفاق مصير هذه المؤسسة مهما امتلكت من موارد ومواهب.
"القادة الجدد" هم مستقبل المؤسسة والدولة، والقائد الناجح "يصنع قادة لا تابعين". عندما تتعامل مع قائد باعتباره تابعاً، فإنك تحوله إلى شخص لا يطور الاستقلالية والقوة والمساءلة الشخصية اللازمة له لقيادة الآخرين. القيادة ليست نجاحات قصيرة المدى يطويها النسيان بمرور الزمان، بل إنها حكمة، وميراث، وتراث. القائد الناجح ليس من يملي أوامره على أتباعه ويستأثر بالسُّلطة، بل من يُعلِّم ويتعلم، ويُفيد ويستفيد؛ فيبقى أثره خالداً بعد عمر مديد. وقد أكد على هذا المفهوم جاك ويلش، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك، عندما قال: "قبل أن تصبح قائداً، عليك النجاح بكل شيء يعمل على إنماء ذاتك، وعندما تصبح قائداً، عليك النجاح بكل شيء لتنمي شخصية الآخرين."
يقول الدكتور علي سباع المري، الرئيس التنفيذي لكلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، "إن صناعة القادة مهمة أساسية من مهام العمل الحكومي في أي دولة. وتزداد أهميتها مع تسارع وتيرة التغيير والتطور التكنولوجي الهائل، من الثورة الصناعية الرابعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وغيرها. فالمجتمعات والدول بحاجة دائمة لقيادات فاعلة تعمل على تحقيق الأهداف وترجمة الطموحات. قيادات تمتلك رؤى تستشرف المستقبل، وتواكب تغييراته وتصنع الإنجاز".
أن القيادة الفاعلة أصبحت مرادفاً للنجاح. خلف كل إنجاز هناك قيادة ملهمة، وبعد كل إخفاق نرى التساؤلات والأصابع تشير إلى القيادة. فالحديث عن القيادة أزلي ولا يوجد خلاف حول أهميتها أو أهمية العمل على إعداد وصناعة القادة. لكن الخلاف هو في طرق ووسائل إعداد القادة، من التعليم العام والمناهج، إلى التعليم العالي والتخصصات، أو من خلال التدريب المهني.
صناعة القادة رحلة طويلة تبدأ بجهود الدولة في الاستثمار في العنصر البشري وتهيئة الظروف والبيئة الممكنة، وخلق الشواغر والفرص عن طريق اقتصاد قوي وتنمية مستدامة. ولكن المسؤولية أكبر ومتشعبة أكثر في إطار صناعة القادة على المستوى المؤسسي، وتهيئة بيئة العمل الداخلية ومسؤوليات القادة والمسؤولين نحو إعداد وتمكين قادة المستقبل. تندرج المسؤولية كذلك إلى المستوى الشخصي للأفراد من وجوب توافر الصفات الشخصية، والعزيمة والإصرار، والإرادة القوية نحو التنمية الذاتية.
حين يكشف رسول الله ﷺ عن محفزات أكابر الصحابة قائلاً: "أَرْحَمُ أمتي بأبي بكر، وأشدهم في أمر الله بعمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح."
صناعة القادة إذاً هي مهمة دولة، ومهمة كل مسؤول، ومهمة شخصية أيضاً. لكن التركيز يكون دائماً على المسؤول بحكم تأثيره الكبير في هذه العملية. وهذا ما دعا إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في وصيته التاسعة للقادة الحكوميين، حيث يقول: "اصنع قادة تصنع مستقبلاً. القائد الحقيقي هو من يصنع قادة، والمؤسسة الحقيقية هي التي تصنع قادة." صنع القيادات سر لا يفهمه إلا رجال تغلبوا على تضخم الأنا والذات، وفهموا أن أعظم إنجاز يصنعونه هو: بناء البشر وليس الحجر.
لمواجهة التحديات المستقبلية ولتحقيق نتائج أداء ممتازة، هناك حل واحد فقط: عليك أولاً إعداد بيئة عمل يكون فيها جميع الأعضاء قادةً. بيئة يكون فيها كل عضو قائداً متعاوناً ومبادراً ومتحملاً للمسؤولية، وعلى استعداد لأن يتعامل مع القضايا والمهمات الصعبة. الأهم من ذلك أن يتصرف كقائد ويراقب نفسه، ويكون مستعداً للخضوع للمراجعة والمساءلة والمحاسبة على نتائجه الشخصية ونتائج الفريق أيضاً. مثل هذه البيئة تختلف كلياً عن بيئة العمل الاتباعية التي يتدخل فيها المدير في كل صغيرة وكبيرة، ويُحَمِّل نفسه مسؤوليةَ نتائج أفراد فريقه؛ نظراً لرقابته اللصيقة عليهم أو عدم تفويض الصلاحيات مع المسؤولية لهم.
وانطلاقاً من هذا السيناريو، على القائد أن يكتفي بالنصح والتوجيه بشكل معتدل، لكي يكرس معظم وقته للعمل الاستراتيجي والمعقَّد وذو المنظور البعيد. هنا يفترض أن تكون علاقته مع الفريق متوازنة. فبدلاً من أن يكون قائداً تقليدياً يُدير الأعضاء حسب المزاج وعلى أساس فردي، عليه أن يكون معلماً ويركز على الصورة الكبرى والشاملة، وكيفية التعامل مع الأزمات تحت الضغوط، وأن ينأى بنفسه عن الموضوعات الصغيرة ولكنه يبقى متاحاً لمساعدتهم عند الحاجة فقط. كما يتوجب عليه ألا يفعل كل شيء بنفسه.
من التحديات التي تواجه القيادة ضرورة إيجاد واستبقاء وتحفيز وتطوير الإمكانيات البشرية. وتعتبر روزنامة القائد دليلاً على أولوياته، فإذا كان يتم تخصيص الوقت لتنمية المواهب فهذا يعني مساهمته في صناعة القادة.
عندما يعامل القائد موظفيه كقادة حقيقيين ويبتعد عن الفردية والأنانية ويركز على الأهداف العامة والمهمات الكبرى، فسيجد أفراد فريقه مفعمين بالطاقة ومحفّزين إلى الحد الذي يجعل كل عضو منهم قائداً مستقلاً بذاته. لن يكونوا مجموعة من المتذمرين الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية على حساب الصالح العام، بل سيصبحون حقاً فريقاً من القادة ويحاولون تخطي الحدود والسعي إلى تحقيق أفضل أداء ممكن. هذا الحل السهل الممتنع ابتكار إداري عظيم رغم بساطته وعفويته.
كما يقول بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت: "يحتاج القادة إلى تزويد الموظفين بالاستراتيجية والتوجيه وإعطاءهم الأدوات التي تمكنهم من جمع المعلومات من جميع أنحاء العالم. يجب ألا يحاول القادة اتخاذ كل قرار."
أن صناعة القادة هي عملية مستمرة تتطلب استثماراً طويل الأجل وتفانياً في بناء القدرات وتنمية المهارات، والقائد الحقيقي هو من يزرع في نفوس من يقودهم الإصرار والتفاني لتحقيق الرؤى المشتركة، ويسعى إلى ترك أثر دائم يُذكر به بعد انتهاء دوره.
* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.