"بارسي" هو الاسم الأخير لمجموعة قليلة من سكان الهند اشتهرت بالذكاء في الأعمال. وعدد أفرادها لا يتجاوز 57 ألفاً، يقطن عدد كبير منهم في ولاية غجرات (Gujurat)، على الساحل الغربي الجنوبي للهند. ومن أشهرهم (رجل الأعمال) نافال راتان تاتا، وهم من أغنى أغنياء الهند. وهنالك أسماء أخرى مشهورة وثرية لا مجال لذكرها هنا.
والبارسيون في الهند هم من بقي من الفرس المعتنقين للديانة الزرادشتية. وبعد دخول الإسلام بلاد فارس، هاجر كثير منهم إلى شبه القارة الهندية في ولايتي غجرات والسند. وأما الأكثرية فقد استقرت داخل أفغانستان في مقاطعة خوست، وآخرون استقروا داخل إيران في مقاطعة الأهواز على امتداد ساحل الخليج. ومعظم هؤلاء اعتنقوا الإسلام. وقد برز من البارسيين الإيرانيين باحث سياسي واقتصادي من الأهواز هو تريتا بارزي. هاجر مع والده الطبيب ووالدته وأسرته إلى السويد حيث درس العلوم السياسية بجامعة أوبسالا (Upsala)، ودرس الاقتصاد بجامعة استوكهولم. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز بمدينة بالتيمور في الولايات المتحدة، ووضع أخيراً كتاباً بعنوان مثير هو "أن تخسر عدواً: أوباما، إيران وانتصار الدبلوماسية".
وقال نال الكتاب الكثير من ردود الفعل، خاصة أن صاحبه هو مؤسس المجلس الوطني للعلاقات الإيرانية الأميركية ورئيسه لعدد من السنوات. وقد امتدح فيه الرئيس أوباما الذي سعى للوصول إلى اتفاق نووي مع الإيرانيين. ولكن المؤلف يقول إن كلاً من بنيامين نتنياهو والنظام الإسلامي في إيران لم يكونا جادّين في تطبيق الاتفاق. وقد أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي امتعاضه الشديد من الاتفاق الذي أعطى إيران، حسب زعمه، الفرصة لإنتاج قنبلة نووية، أما إيران فيرى الكاتب أنها وافقت ظاهرياً على ذلك الاتفاق بينما كانت تخطط للمضي في ذلك البرنامج ولو لفترة أطول.
أما السبب الأهم في رأي المؤلف فهو أن إسرائيل كانت تخطط للاستفادة من عداوة إيران، ولذلك اعتبرت الاتفاق النووي خسارة لعدو كانت تحتاج إليه من أجل الاستمرار في مخططها لإبقاء حالة التوتر في المنطقة، ولعب دوْر الفريسة التي يحيط بها الأعداء من كل جانب، وأقنعت بعض الدول العربية بأن إيران هي العدو الحقيقي لهم، وأن إسرائيل قادرة على التصدي لها، بل وإقناع الولايات المتحدة وجسمها السياسي بذلك.
أما إيران، فإن إبقاء إسرائيل عدوة لها يعطيها الشرعية لكي تمضي في حمل مشعل التحرير، وتقنع وكلاءها في المنطقة بأنها قادرة على التصدي لإسرائيل، وأنها - أي الجمهورية الإسلامية - هي الأجدر بقيادة المعركة ضد إسرائيل والاستعمار.
وقد فتح هذا الكتاب شهيتي على مزيد من البحث، وأثناء التقصي عن كتب أخرى، شاهدت مقابلة على قناة الجزيرة بالإنكليزية مع الباحث والمؤلف متعدد المواهب ويد ديفيز Wade Davis، أستاذ الانثروبولوجيا وعلم النبات العرقي (Anthropologist and Ethnobotanist) بجامعة فانكوفر في بلده كندا. وفي كتابه الأخير الموسوم "تحت سطح الأشياء: مقالات جديدة ومختارة"، أو (Beneath the Surface of Things: New and Selected Essay)، يطرح الكاتب في إحدى أطروحاته في الكتاب السؤال: لماذا تستمر حرب غزة؟ ويجيب أنه حتى وبعد الحرب ستبقى روح العداوة والتحفز قائمة بين إسرائيل وإيران. ويتناول موضوع دوام الحرب والصراع في الشرق الأوسط بدون حل، ويصفه بأنه جزء من طبيعة الخلافات التي تثير الأمم وتطوّرها اجتماعياً واقتصادياً، وكأن هذه الحروب ضرورة من أجل إحداث التغير الانثروبولوجي الاجتماعي المطلوب. ويريد الكاتب من هذا القول التأكيد أن الحروب لا يبقيها اشتعال الظروف الخارجية المحيطة بها، بل طبيعة المجتمعات ذاتها والداخلة في الحرب بعضها ضد بعض.
الآن وبعد استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وفؤاد شكر، القيادي العسكري لحزب الله الذي استشهد بالضاحية في بيروت حيث مركز تجمع قوى حزب الله، فإن الباحث الحصيف قد يتساءل: لماذا قامت إسرائيل أو بالأحرى بنيامين نتنياهو بهذين العملين الإجراميين، مستقصداً إحداث أكبر أذى ممكن لإيران من ناحية وحزب الله عضيدها في لبنان من ناحية أخرى؟ ولماذا اختار أن يفعل فعلته الشنيعة بعد زيارته للولايات المتحدة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تثبيت مكانته في إسرائيل، أم أن هذا التثبيت سيكون مؤقتاً؟
هناك طبعاً أسباب جوهرية تعود إلى استمرار المعركة وأهمية الضحايا الذين يختارون ليكونوا وقوداً لها. إن المقارنة التي كشفت ستر إسرائيل وهتكت حجبها يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لا يمكن أن تتوقع إسرائيل أن تقبل بذلك طواعية، بل سيكون رأيها نابعاً من نظرتها للعرب والمقاومة. وهي نظرية دونية تجلت في الخطاب التافه الذي ألقاه رئيس وزرائها أمام الجلسة المشتركة للكونغرس الأميركي. وهذا ما أشار إليه ويد ديفيز بالقول إن إسرائيل فوجئت وفجعت، وحاولت استرداد أنفاسها بالمبالغة في العنف والقتل.
والآن، نعود لإيران وإسرائيل والوضع الراهن بينهما. حتى كتابة هذه السطور تصاعدت حدة التوتر والاستعدادات للحرب هجوماً ودفاعاً. ولكن الأعمال الحربية التي يتوقع الجميع حدوثها لم تحصل. صحيح أن أميركا والمملكة المتحدة زادت حضورها العسكري بحراً وبراً وجواً في الشرق الأوسط، ولكنها تسعى إلى أن تقنع الجانب الإيراني وحلفاءه بأن يقوموا بعمل تكتيكي لكن ليس موجعاً إلا ضمن الحدود المعقولة، حتى تكون هناك فرصة لضبط الأمور ومنع الحرب من التوسع والاستفحال. لكن المشكلة أن كلاً من إسرائيل وإيران متفقتان على أمر واحد على الأقل: وهو أن الاحتفاظ بالآخر عدو مفيد لكل منهما.
ولكن عندي حدس أن القوى الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، لا تريد تلك الحرب، بل بات من الأجدى لها في الأيام المقبلة أن تُبقي الأمور تحت السيطرة، وأن تُنهي القتال على كل الجهات، وتُتمّم صفقات تبادل الأسرى، وتُدخل الأطراف غير المشوشة إلى عملية التفاوض في نقاش للوصول إلى "حل معقول" للقضية الفلسطينية.
والأسباب لذلك تعود إلى أن طول أمد الحرب واستمرارها سوف يوفران فرصاً مهمة للمنافسين للتدخل في شؤون المنطقة، وتوزيع تحالفاتهم على الجميع حتى لا تكون حكراً على الغرب. وهم بحاجة لتجميد دور النفط الروسي من أجل ضمان تزويد الوقود لأوروبا تعويضاً عن الغاز الروسي من الدول العربية.
وللنفط بعد آخر مهم، وهو أهمية السوقين الصيني والهندي للطاقة الأحفورية العربية والإيرانية، ولذلك فإن إعادة تأثير الدول الغربية على قرارات تحالف أوبك+ التي ستجتمع ثانية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم مهم جداً، خاصة أنه يأتي قبل الانتخابات الأميركية بشهر، وسيكون ذا أثر مهم أيضاً على تصويت الناخبين في الولايات المتحدة.
أما النقطة الثانية فهي أن استمرار نهج الملاحة عبر المحيط الهندي إلى البحر الأحمر إلى قناة السويس بشكله الحالي يشكل عائقاً كبيراً أمام صادرات أوروبا إلى القارة الآسيوية، ويرفع كلف مستورداتها شحناً وتأميناً من القارة نفسها.
والنقطة الثالثة أن استمرار الحرب سوف يعزز الفوضى العارمة وغير الخلاقة في الأسواق العالمية، سواء كانت نقدية أم سلعية أم مالية أم تكنولوجية. وها نحن نرى التخبط في أسواق المال والعملات النادرة والمعادن المهمة، والمواد الغذائية وأسعار العملات، وتقلب البورصات، فماذا بعد ذلك؟
في رأيي أن حكومة نتنياهو هي المشوش الأكبر على أي احتمالات للسلام. ولذلك بقي أن تزول عن الواجهة، وتستبدل بحكومة تفهم أن حاجة إسرائيل لأصدقاء لا تقل أهمية عن حاجتها لأعداء.
نتنياهو رغم انتفاخ أوداجه فرحاً بمن قتل واغتال وغدر، ولكنه نصب دون أن يدري لنفسه فخاً، ونقل الإسرائيليين من حالة العداء إلى حالة الغرور والإقصاء.
العربي الجديد