لم تعد المؤسسات تبنى على القوة، ولكنها تبنى على الثقة، ان إطار "بوكارت" للثقة هو نموذج تحليلي يهدف إلى فهم العوامل التي تؤثر على ثقة المواطنين في الحكومة وأدائها.

طور هذا الإطار الباحث البلجيكي "Geert Bouckaert"، الذي يركز في أبحاثه على الإدارة العامة والحوكمة والثقة في المؤسسات الحكومية. يقوم هذا النموذج بتقسيم العوامل المؤثرة على الثقة إلى ثلاثة مستويات رئيسية: الكلي، المتوسط، والجزئي، حيث يعالج كل مستوى جانباً مختلفاً من الحوكمة وتأثيرها على ثقة المواطنين. سنستعرض في هذا المقال هذه المستويات مع تسليط الضوء على أهمية تعزيز الثقة في الخدمات الحكومية من خلال تحسين الأداء وتبسيط الإجراءات البيروقراطية.

في المستوى الكلي، يتم التركيز على المؤسسات السياسية وعمل الديمقراطية كعناصر أساسية للثقة في الحكومة. تشكل المؤسسات السياسية المتطورة والالتزام بسيادة القانون عوامل حاسمة لتعزيز الثقة العامة.

ويتضح أن الثقة في النظام القضائي وعمل المؤسسات السياسية هو مؤشر مهم يعكس نزاهة وفعالية الحكم. في العديد من الدول الأوروبية، يعبر المواطنون عن ثقتهم في الحكومة أكثر من الأحزاب السياسية، وهو مؤشر على أن المؤسسات الحكومية قد تكون أكثر استقراراً من الديناميات السياسية الحزبية. في الوقت نفسه، يعتبر إقبال الناخبين على التصويت من المؤشرات التقليدية على الثقة في النظام السياسي، رغم أن العلاقة بين إقبال الناخبين والثقة في الحكومة قد تكون معقدة وغير مباشرة.

على المستوى المتوسط، تركز الثقة على قدرة الحكومة على إدارة السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتوليد توقعات إيجابية للمستقبل.

يعتمد هذا المستوى على كيفية تعامل الحكومات مع القضايا الاقتصادية الكبرى، مثل إدارة الديون والمالية العامة، بالإضافة إلى كيفية توزيع الموارد الاجتماعية مثل الرعاية الصحية والمعاشات. تظهر الدراسات أن الثقة في الحكومة قد تتأثر بشكل كبير بكيفية تنفيذ الحكومات للإصلاحات، ومدى شفافية هذه العمليات وعدالتها. على الرغم من عدم وجود ارتباط قوي بين الحصافة المالية والثقة في الحكومة في معظم الأوقات، فإن الأزمات المالية الكبيرة قد تؤدي إلى تآكل الثقة بشكل حاد.

يركز المستوى الجزئي على تجربة المواطنين المباشرة مع الخدمات العامة، مثل الأمن، الرعاية الصحية، والتعليم. وتشمل هذه التجارب جميع المعاملات التي يقوم بها المواطنون والمتعاملون مع المؤسسات الحكومية. لذلك يجب أن يكون الرضا عن هذه الخدمات أعلى من مستوى الثقة العامة في الحكومة، لأن ذلك يعكس التجربة المباشرة مع الحكومة.

تشير الأدلة إلى أن المواطنين يميلون إلى الثقة أكثر في الجهات الحكومية التي يتفاعلون معها بشكل مباشر وملموس، خاصة على المستوى المحلي. لذلك، يُعتبر تحسين جودة الخدمات العامة، وتبسيط الإجراءات والبيروقراطية من حيث الوصول والموثوقية والدقة، عاملاً حيوياً لتعزيز الثقة في الحكومة بشكل عام.

تعتبر الثقة في الخدمات الحكومية مفتاحاً لتحقيق فعالية أكبر في العمل الحكومي وتعزيز رضا المواطنين. عندما يشعر المواطنون بأن الحكومة تقدم خدماتها بكفاءة وشفافية، فإن ذلك يعزز من شرعية المؤسسات الحكومية ويقلل من التكاليف المرتبطة بفرض اللوائح والقوانين. علاوة على ذلك، فإن "تصفير البيروقراطية" من خلال تبني الابتكارات التكنولوجية وتبسيط الإجراءات يمكن أن يسهم بشكل كبير في بناء الثقة، حيث يقلل من التعقيد ويزيد من سرعة وكفاءة تقديم الخدمات.

إن بناء الثقة في الحكومة يتطلب نهجاً شاملاً يبدأ من إصلاح المؤسسات السياسية على المستوى الكلي، وصولاً إلى تحسين السياسات العامة والإدارة الاقتصادية على المستوى المتوسط، وأخيراً، تقديم خدمات عامة عالية الجودة على المستوى الجزئي. من خلال التركيز على تحسين تجربة المواطنين مع الخدمات الحكومية وتصفير البيروقراطية، يمكن للحكومات تعزيز الثقة وتحقيق علاقة أكثر إيجابية واستدامة مع مواطنيها.

* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتطوير /كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.