استشهاد الملك المؤسس .. وقلم صديق
أمل محي الدين الكردي
06-08-2024 11:02 AM
(لعله لو خيّر لاختار أن يلبي نداء ربه فجأة ودون ألم في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين غير بعيد عن قبر أبيه العظيم). كريستوفر بن غوردون.
لم تأتِ مناسبة للأردن إلا وكان الحديث لمؤسس الدولة الأردنية ،الشخصية التي كانت أبرز الساسة العرب في عصره ،والذي تميز بالشخصية القيادية الفذة المتجانسة ،مع الفكر الهاشمي وثوابت ومبادىء الثورة العربية الكبرى .
يُعد إرث الملك المؤسس عبد الله زاخراً من حيث الاتجاه الفكري والأدبي والسياسي وُيعد شخصية فريدة جليلة خالدة برزت من تاريخ العالم المعاصر بما تميز من كاريزما القيادة وقوة التأثير .ومن أقواله وقد أوماً بذلك حيث قال (اعتزازه انه بقية الهاشميين ورأس العلويين معتزاً بحمد صفاتهم).
لذلك كان استشهاد المغفور له الملك عبد الله الاول صعقة هزت العالم العربي والغربي بحينه، وقد غطت الصحف العربية والغربية خبر استشهاده وكان من الاشخاص الذي عبر عن حزنه باستشهادة الملك عبد الله الاول السكرتير الاول كريستوفر بن غوردون لقد قضى صاحب هذا الحديث في خدمة فلسطين عشرة أعوام وشغل بعد استقلال الأردن منصب السكرتير الأول في المفوضية البريطانية في عمان وكان من المتصلين اتصالًا وثيقًا بالمغفور له جلالة الملك عبدالله، فإن تحدث عن هذه الشخصية العظيمة التي فقدها العالم العربي فإنما يتحدث عن معرفة وخبرة. وكان لهذا الحديث بأحدى الصحف القديمة التي نشرت بحينه فقال:لقد مات بموت الملك عبدالله عظيم عظماء الرجال، وفي لندن كثيرون من البريطانيين ممن ساعدهم الحظ بمعرفة جلالة الملك عبدالله بن الحسين معرفة شخصية.
ولقد راعنا جميعًا نبأ اغتياله، فأحس بأمتنا كأن يدأ لطمته لطمةً عنيفة. شق علينا أن نصدق أن تلك الشخصية .... الدهشة التي قامت بدور أساسي لأهمية في الشرق الأوسط قد مات فجأة وفي ظروف محزنة حقًا، ... وتأتي على خاطري الذكريات. مئة .ذكرى للراحل العظيم في ظروفه المختلفة ...ذكرى لطفه وتواضعه وذكرى كرمه ....، وذكرى فكاهته وسحر حديثه....، ووقاره وهيبته التي لا حد لها.
طبعت ذكرى أول مرة تشرفت فيها بلقياه، وكان ذلك في الديوان القديم وراء القصر ... ذات طبقة واحدة فيها مكتب إلى اليمين رلئيس الوزراء ومكتب .... منه إلى اليسار لسيد البلاد.
ول يكن في الغرفة إلا طاولة بسيطة .... وصف من الكراسي الصلبة.. ويوجد على الحائط خزانة واحدة للكتب ذات باب زجاجي، قدم إلينا الشاي في أكواب (مزخرفة او زجاجية – لم تكن الكلمة واضحة في الصحيفة).على طبق مزخرف وكان جلالته ينشغل بالحديث من آن إلى آن، ليتصل .بنائبه وموظفيه بالتليفون؛ مستفهمًا ويعطي الأوامر فيما يعرض من شؤون عليه ينظر إلى كل مسألة بتعقل وحصافة ... على حكمة ونفاذ بصيرة في كل مسألة.
مع أن هذه الزيارة التي أتحدث عنها الرسمية فإن الملك استطاع كعادته أن .يكون مع جلسائه بأنه ليس سلطانًا يقاتل ومع الممثلين الأجانب وإنما هو مضيف .... يرضي ضيوفه إلى أقصى ما تسمح به الظروف ويسمح به الحق. ومع أنه .... ما كان يخالف زائريه في الرأي كان دومًا يصغي إلى كل رأي يلقى عليه. كما أنه كان يعبر عن رأيه تعبيرًا صريحًا قويًّا، وكان يكثر في حديثه من التندر لأنه ظل طيلة حياته مغرمًا بالضحك والنكتة المستملحة، بل كثيرًا ما كان يخفف وطأة الأزمات السياسية الحادة ببديهيه الحاضرة التي تستكشف الناحية المضحكة من كل موقف.
لقد كان جلالة الملك عبدالله بن الحسين رحمها لله خير حليف لبريطانيا وأصدق صديق تتمناه دولة، ولكنه لم يتنازل عن شيء من حق الصداقة وميزتها الكبرى، وأعني بذلك الصراحة في القول؛ فكان إذا استنكر شيئًا في سياسة بريطانيا عبر عن رأيه بأوضح العبارات، غير أنه كان أمام أعداء بريطانيا قويًّا صلب العود لا يلين، وكم تحدى النازيين في الأوقات العصيبة، من الحرب أيام ظن الكثيرون أن نصر بريطانيا من المستحيلات.
لم يقتصر ديوان الملك عبدالله رحمه الله على الوزراء والدبلوماسيين من الأجانب، بل كان مجلسه مفتوحًا لكل واحد من رعاياه يتقدم إليه شخصيًا بشكواه وكان يستاء إذا سمع بظلم أو عوج، فلم يأمن أكبر الموظفين أو لأصغرهم في الدولة من محادثة تليفونية من جلالة الملك يأمرهم فيها بإعادة الحق إلى نصابه كلما دعت الحاجة.
وكان رحمه الله كبير القلب مندفعًا متحققًا في جلائل الأمور وكانت هذه الصفات تدعو إلى الدهشة في الأمور العادية المألوفة فكانت خطط أسفاره مثلًا تبدل خمس مرات خلال الساعة الأخيرة؛ فكان الذين يستعدون لتكريمه بتوديعه عند سفره إلى بلد أجنبي يُفاجأون بتبديل برنامجه مرة إثر أخرى ولا يدرون حتى اللحظة الأخيرة هل سيستقل الطائرة من مطار عمان أم من المفرق. كنا نقلق من هذا التغير لأن جلالته رحمه الله كان يحب أن يستقبله أو يودعه أكبر عدد ممكن من أصدقائه ومحبيه حتى إذا لم يغب عن عاصمته إلا ساعات معدودات.
وكان يفاجئ جلسائه بمثل هذه المفاجآت عند الإهداء، فكان يحب أن يقدم الهدايا لمن يعجبه حديثهم أو مسلكهم، يعطيها لهم بنفس الساعة دون سابق تدبير وكان جلالته كريمًا مضيافًا، وكثيرًا ما كان يدعو ضيوفه إلى القصر فجأة قبل موعد الغداء بعشر دقائق فإذا لم يجد من يود أن يدعوهم إلى مائدته في بيوتهم أو مكاتبهم استعان برجال الشرطة يفتشون عنهم في كل مكان. وحدث شيء من هذا القبيل في إحدى الأزمات السياسية، ذلك أن سياسيًّا وقورًا محترمًا اعرب عن عدم رغبته في تولي رئاسة الوزراء الجديدة بأمر جلالة الملك أن يحمل هذا السياسي إلى القصر الملكي في سيارة البوليس، وهناك أمره جلالته بأن يصبح رئيس لوزرائه حالًا.
نشأ عبدالله ابن الحسين في بلاد السلطان عبدالحميد بالأستانة وقدر له أن يتولى منصب وكيل رئيس البرلمان التركي، ولكن نشأته الأولى هذه لم تترك في نفسه أثرًا عميقًا اللهم إلا حبه للغة التركية وكان يجيدها كل الإجادة فبقي رحمه الله ابن الصحراء وابن الريف لم يتعلق يومًا بالمدن الواسعة المزدحمة.
وكانت أظهر مظاهر حياته البساطة، بساطة العظماء الحقيقيين، فكان يستيقظ من نومه في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحًا وكان ينتظر من وزرائه أن يكونوا متهيئين للعمل الجدي في الساعة السادسة صباحًا، وكان يأوي إلى فراشه في الساعة التاسعة والنصف مساء إلا في شهر رمضان المبارك فكان يقوم الليل كله.
وكانت متعته الكبرى في الحياة بعد الأدب العربي، لعبة الشطرنج بسرعة عجيبة، وبمهارة مكنته من التغلب على بعض اللاعبين من أصحاب الشهرة العالمية وكان رحمه الله يجيد الرماية بالبندقة والمسدس، وكان مغرمًا بالبحر، وكثيرًا ما حل ضيفًا على البوارج الحربية البريطانية وتحدث عن الشؤون البحرية بحديث الخبير العارف.
ألا أن أعظم ما كان يسطير على نفس الفقيد المعظم حتى من حبه للأمة العربية ووحدتها، هو الدين الإسلامي. فكان يؤمن إيمانًا صادقًا بشعائر الدين ولا يحيد قيد شعرة عن تعاليم القرآن الكريم (وكان يحفظ القرآن كله أو جله غيبًا) ... لقد نظم حياته الخاصة بأكملها وفق المبادئ والواجبات الدينية. كان عبدالله بن الحسين يجد في دينه عزاء وبهجة يعتبر صلاة الجمعة في المسجد الحادث الرئيسي في الأسبوع كله.
لعل سيدنا رحمه الله، وهو ابن الحسين شريف مكة وابن الجيل السادس والثلاثين من سلالة النبي العربي الكريم، أمله لو خير لاختار أن يلبي نداء ربه فجأة ودون ألم في ثالث الحرمين وأولى القبلتين المسجد القصى بالقدس الشريف غير بعيد عن قبر أبيه. لكن موته، موت الملك عبدالله ملك الأردن غيلة على يد مجرم أثيم، مصيبة حلت بالشرق الأوسط بل بالدنيا كلها.
لقد فقد الشعب البريطاني بفقده صديقًا مجربًا وفيًّا ولكن بريطانيا قبل أن تعزي نفسها تتقدم بالعزاء للشعب العربي الحليف في الأردن فهم قد فقدوا ملكهم لا بل شيخهم وأباهم، أما العالم فقد فَقَدَ عظيمًا من عظمائه.
هذا ما كان من السكرتير الاول بالمفوضية البريطانية في عمان .ولعل تاريخ الملك المؤسس حمل الكثير من الذكريات التي كتبت ولم تقرأ.او قرأت ولم تكتب ولا زال الكثير بحاجة الى البحث للتدوين التاريخ الذي لم يكتب .رحم الله المغفور له الملك عبد الله الاول وحفظ الله الملك عبد الله الثاني ابن الحسين.
ملاحظة : كان هناك الكثير من الكلمات المخفية بالمقال لعدم حفظ وتصوير الصحيفة بالشكل الصحيح.