اضمحلال المبدأ القانوني «الشك يفسر لصالح المتهم»
محمد نور الدباس
06-08-2024 12:49 AM
من المعروف أن القاضي الجزائي يحكم بقناعته الوجدانية، بحيث أن «البراءة» قيدت القناعة الوجدانية «باليقين»، ولكن إذا كان «اليقين» هو الوجه الأول لأثر البراءة في الاقتناع الذاتي للقاضي، فإن «الشك» هو الوجه الآخر لهذا الأثر، والذي يعرف في الفقه القانوني بالقاعدة القانونية «تفسير الشك لمصلحة المتهم».
ولتأصيل هذه القاعدة نقول إن الدعوى الجنائية، تستهدف تحويل الشبهة (والتي تعد أساساً لدفع الدعوى الجنائية إلى قضاء الحكم) إلى درجة اليقين القضائي، والتي تسمح بدورها إصدار الحكم بالإدانة، فإذا عجز الادعاء العام عن إقامة الدليل على وقوع الجريمة بعناصرها كافة وأركانها ونسبتها إلى المتهم، فإن ذلك يوجب على القاضي الحكم بالبراءة، إذ ان الشك الذي لا تستطيع سلطة الاتهام أن تبدده، يعد بالنسبة للمتهم والغرض براءته، دليلاً ايجابياً على عدم مسؤوليته. وهو ما يعبر عنه بالفقه الجنائي بقاعدة «الشك يفسر لصالح المتهم».
وتفسير ذلك يكمن في أن عدم قدرة أدلة الإدانة على أحداث القطع أو اليقين، يترتب عليه، استمرار حالة البراءة (الثابتة يقيناً على وفق أصل البراءة) والتي يكفي لتأكيد وجودها حينئذ، مجرد الشك في ثبوت تلك الإدانة، استناداً إلى ان البراءة أصل عام في المتهم مسلم بوجوده ابتداءً (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، فإذا كان الأصل في الإنسان البراءة، فإنه يجب لادانته أن يقوم الدليل القاطع على ارتكاب الجريمة، بحيث يقتنع القاضي اقتناعاً يقينياً بارتكابها وبنسبتها للمتهم، فإذا ثار شك لدى القاضي في صحة أدلة الإثبات، وجب أن يميل إلى جانب الأصل وهو البراءة، أي أن الشك يجب أن يفسر لصالح المتهم، فالدعوى الجنائية تبدأ في مرحلتها الأولى في صورة شك في إسناد واقعه إلى المشتبه فيه، وأن هدف إجراءاتها التالية هو تحويل هذا الشك إلى يقين، فإذا لم يتحقق ذلك بقي الشك، وهو عدالة غير كافية لإدانة الشخص، ومن ثم يكون القاضي ملزماً بإصدار حكمه ببراءة المتهم، فالبراءة لا تدحض إلا بيقين لا يعتريه شك، فإذا كان هناك احتمال واحد يفيد ببراءة المتهم، فلا ينبغي على المحكمة الحكم بالإدانة.
وما يعنينا هنا ما يحدث على أرض الواقع، في ظل إنفاذ قانون منع الجرائم، بحيث يقوم رجال الأمن العام بإيداع المشتبه به إلى الحاكم الإداري بعد إيداعه للقضاء ولم تتم إدانته، ليقوم الحاكم الإداري بإيقاع عقوبة على المشتبه به بالتوقيف في مركز الإصلاح والتأهيل بعد فرض الكفالة العدلية وعدم الموافقة على كفالته إلا بعد مرور فترة من الزمن حسب قناعة الحاكم الإداري بأنها كافية تحقق الردعالعام والردع الخاص، لنكون أمام عدم إلتزام بالقواعد والمبادئ القانونية، فأصبح لا مناص من التوقيف للشخص المشتبه به، فإذا لم يجر توقيفه قضائياً فيستم توقيفه إدارياً، إلا من رحم ربي.
وما نحتاجه الآن للخروج من هذا الوضع في ظل سيادة القانون، أن نعيد النظر في آلية تطبيق قانون منع الجرائم، بعد صدور قرار المحكمة الدستورية بدستورية قانون منع الجرائم؛ لأن الغاية من قانون منع الجرائم هو الحد من النشاط الجرمي لمن اعتاد الجريمة وأصبحت بالنسبة له أسلوب حياة، بحيث لا يطبق قانون منع الجرائم على من ارتكب فعل مجرم قانوناً كحالة استثنائية ولم يعتد ارتكاب الجرائم، أو من ارتدع وتاب وانقطع عن ارتكاب الجريمة منذ فترة معقولة، حتى نستطيع أن نقول إن سيادة القانون هي الأساس.
فالمبدأ القائل أن الأصل في المتهم البراءة يترك آثاراً على كثير من الإجراءات في مرحلة التحقيق والأحكام القضائية ومن ضمنها «ضمان الحرية الشخصية للمتهم»، فهذه النتيجة هي أهم نتيجة على الإطلاق، لأن الأصل أنه يجب معاملة المتهم بما يحفظ كرامته وإنسانيته وأن يعامل معاملة الشخص البريء بغض النظر عن نوع الجريمة أو كيفية ارتكابها، فإذا اقتضت الضرورة المساس بحرية الشخص للبحث عن الحقيقة فيجب أن يتم ذلك في حدود ما تقضي به القوانين وألا تمس إلا بالقدر الضروري الذي يستوجبه تحقيق العدالة، وعليه فان مس الحرية الشخصية للمتهم استناداً إلى ذلك لا يعتبر انتهاكا لحق البراءة بل ضرورة يتطلبها التحقيق للوصول إلى الحقيقة.
كما أن المتهم لا يلتزم بإثبات براءته، وعبء الإثبات يقع أساساً على عاتق سلطة الاتهام، حيث إن براءة المتهم مفترضة قانوناً، فعلى من ينسب إلى شخص ارتكاب جريمة فعليه يقع عبء الإثبات، وعلى سلطة الاتهام (أي الادعاء) إثبات توافر جميع أركان الجريمة وإقامة الدليل على مسؤولية المتهم عنها، فلا يقتصر دور الادعاء على مجرد إثبات عناصر الواقعة الإجرامية بشهادة أو دليل مادي، بل يتعدى ذلك إلى إثبات عدم توفر أي سبب يؤدي إلى تبرئة المتهم بمعنى إن الواقعة لا تخضع لسبب من أسباب الإباحة أو موانع المسؤولية، مع مراعاة أن هناك حالات استثنائية حيث يقع عبء الإثبات على المتهم، ومنها إثبات أنه كان في حالة دفاع شرعي، أو أنه ارتكب الفعل تنفيذاً للقانون أو أمر سلطة قانونية.
الراي