تجربة "إستونيا" تقدم درسًا مهمًا كما يقول البرفسور يوسف العساف مؤلف كتاب "عهد رقمي جديد"رئيس جامعة روشستر: "أن الرقمنة ليست مجرد تحديث للتكنولوجيا، بل هي تحول جذري في كيفية إدارة الدولة وتفاعلها مع المجتمع، وهذا هو الاتجاه الذي يجب أن تسير عليه الحكومات إذا أرادت البقاء في طليعة التطور وتحقيق التقدم المستدام.
قبل ما يقرب من 30 عامًا، وجدت دولة إستونيا نفسها أمام تحدٍ هائل يتمثل في إعادة بناء كل شيء من الصفر بعد سنوات من الاحتلال السوفييتي. عندما استعادت إستونيا استقلالها، كانت تفتقر إلى الخبرات، والإدارة، والقوانين، وحتى البنية التحتية الأساسية. في تلك اللحظة الحرجة، كان على قادة البلاد اتخاذ قرارات جريئة تعتمد على "الابتكار" والرشاقة المؤسسية"، مستفيدين من الإمكانيات التقنية المتاحة ومن دعم نخبة من المبرمجين والمهندسين المبدعين. وهكذا بدأت رحلة "تحول رقمي" غيرت ملامح البلاد تمامًا، حتى أصبحت اليوم تُعرف بأنها "المجتمع الأكثر رقمية على وجه الأرض".
منذ عام 2001، أصبح بإمكان المواطنين الإستونيين الإعلان عن ضرائبهم عبر الإنترنت، ومع مرور الوقت تطورت هذه البنية الرقمية لتشمل العديد من الخدمات الحكومية الأخرى. اليوم، يمكن للإستونيين القيام "بكل شيء" تقريبًا عبر الإنترنت: من التعليم، والتعامل مع الشرطة، والعدالة، وتأسيس الشركات، وحتى الاطلاع على السجلات الصحية أو الطعن في تذاكر وقوف السيارات.
من خلال هذه التحولات، تمكنت إستونيا من القضاء تقريبًا على متاهة البيروقراطية التقليدية، مما جعل الحياة اليومية أسهل وأكثر كفاءة للمواطنين. أصبح كل شيء تقريبًا يُدار إلكترونيًا، بما في ذلك عمل مجلس الوزراء الذي يتم بالكامل دون استخدام الورق.
التحول الرقمي في إستونيا لم يكن مجرد رقمنة للبيروقراطية، بل كان تحولًا جذريًا في طريقة عمل الدولة وتعاملها مع مواطنيها. الفكرة الأساسية كانت "رقمنة الثقة" بين الحكومة والشعب. في معظم البلدان، هناك فجوة من "عدم الثقة بين الحكومات وشعوبها"، تُحاول الحكومات سدها عبر إجراءات "بيروقراطية معقدة". لكن إستونيا أثبتت أن التكنولوجيا يمكن أن تكون الأداة الفعالة لاستعادة الثقة وخلق نظام خدمات حكومي فعال يتمحور حول احتياجات المواطنين.
استند التحول الرقمي في إستونيا إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي يمكن أن تكون نموذجًا لحكومات المستقبل:
1. الخصوصية والسرية: من خلال هوية رقمية قوية، يمكن لكل مواطن الإستفادة من جميع الخدمات الحكومية عبر منصة واحدة، مما يضمن الخصوصية وسرية البيانات.
2. "مرة واحدة فقط": هذا المبدأ يعني أن الدولة لا تطلب من المواطنين تقديم نفس البيانات أكثر من مرة، ولا تحتفظ بها في أكثر من مكان واحد. هذا يضمن فعالية استخدام البيانات ويقلل من تكرارها.
3. التحقق المستمر من البيانات: باستخدام تقنية "البلوكتشين" منذ عام 2007، تضمن إستونيا سلامة وموثوقية البيانات الرقمية في نفس لحظة الدخول على ملفك الشخصي.
4. ملكية البيانات: في إستونيا، يُعتبر الفرد هو المالك الشرعي للبيانات التي يتم جمعها عنه، ويحق له الوصول إلى هذه البيانات ومعرفة من قام بالاطلاع عليها.
لم تتوقف إستونيا عند هذا الحد، بل تعمل حاليًا على استخدام الذكاء الاصطناعي وتطوير جيل جديد من الخدمات العامة التي تتكيف بسلاسة مع مواقف الحياة المختلفة. كما اتخذت خطوة إضافية لضمان استمرارية النظام الرقمي من خلال إنشاء "سفارات البيانات" التي تحفظ الأصول الرقمية خارج أراضي الدولة.
رغم التقدم الهائل، هناك بعض التحديات التي تواجه التحول الرقمي الكامل. من ضمنها القلق من أن الاعتماد الكامل على التكنولوجيا قد يقلل من الدور البشري ويثير مخاوف من تآكل المهارات التقليدية وظهور شبح "البطالة". ومع ذلك، فإن إستونيا أثبتت أن الاعتماد على الرقمنة يمكن أن يعزز الشفافية والشمولية، ويجعل البيانات في أيدي أصحابها الشرعيين وعملت على تدريب الموظفين على المهارات الحديثة المطلوبة.
إن تجربة إستونيا في التحول الرقمي تمثل نموذجًا رائدًا لحكومات المستقبل. من خلال التركيز على الأمان، الشفافية، والشمولية، يمكن للحكومات تقديم خدمات فعالة ومتميزة تلبي احتياجات المواطنين.
*** الكاتب خبير التدريب والتطوير بكلية محمد بن راشد للادارة الحكومية