إضافتان نوعيتان شهدهما "جرش 38"
04-08-2024 07:12 PM
عمّون- إضافتان نوعيتان تسجلان لدورة هذا العام (الدورة 38) من مهرجان جرش للثقافة والفنون. ففي ظل ما فرضته ظروف الأهل في فلسطين الحبيبة، فإن خيارات إدارة المهرجان تمحورت حول تقديم الفنون الأقل صخبًا ورقصًا. وفق هذه المعطيات أدرج المهرجان فعاليات ومناسبات لم تكن تُدرج عادة ضمن فعاليات مهرجان جرش، منها إدراجه ثلاثة مهرجانات مسرحية. في سياق متصل فقد جاءت ليالي الحب والوفاء التي انطلقت العام الماضي 2023، كإضافة نوعية حقق فيها المهرجان مغايرة على صعيد المعنى والمبنى.
مهرجان المونودراما
من منجزات الدورة 38 أنها، كما أسلفنا، احتضنت عديد مهرجانات المسرح التي كانت تقام عادة خارج إطار مهرجان جرش؛ في هذا السياق شكّل مهرجان المونودراما بإدارة الفنانة عبير عيسى نقلة نوعية على مستوى مهرجانات المسرح التي ينظمها الأردن، وضمّت عروضه مشاركات من تونس "السلطة الرابعة"، والسعودية "ساكن متحرك"، وسورية "كنّاس"، والعراق "شغف"، وفلسطين "ليست مريم فقط"، والجزائر "مونودراما 33"، ومصر "فريدة" إضافة إلى مشاركة عرض المونودراما الأردني "أدرينالين" تأليف (دراماتورج) وإخراج وتمثيل أسماء مصطفى وموسيقى عبد الرزاق مطرية.
لفتة مهرجان المونودراما والدورة جميعها كانت إطلالة الفنانة السورية المخضرمة منى واصف، فكل خطوة قطعتها نحو منصة المسرح، باحت بزمنٍ كان، وإنجازاتٍ كبرى، وسنديانٍ كثير، وأما الدهشة كلها فقد سطعت عندما لبّت واصف تلميحة الفنانة عبير عيسى التي تحدثت عن تشرفها بالتمثيل إلى جوار "سنديانة دمشقية عريقة" قائلة إن الفنانة المخضرمة كانت كلما غضبت هربت إلى الغناء، فما كان من الصبية التي تكرج في رحاب الثمانين إلا أن لبّت وغنّت: "سمّوك وما أنصفوا عيني.. سمّوك عريء الآس.. جميلة بين البشر مشكولة فوق الراس.. يا مايله عالغصون عيني سمرا سَبيتينا.. يحرق قليبه الهوى يامو شو عمل فينا"، ثم لتكشف، بعد موجة التصفيق المبتهجة، أن أول عمل تلفزيوني ملوّن لها سبعينيات القرن الماضي، كان مسلسل "دليلة والزيبق" الأردني.
عروض المونودراما باحت بمعظم أشجان الإنسان العربي، صرخت.. صدحت.. حاولت، جاهدة، أن تقفز فوق كل هذا الخراب.
ليالي الحب والوفاء..
من إضاءات دورة هذا العام إحياء ليالٍ استذكارية لفنانين رحلوا، أو كانت لهم بصمة أصيلة في مسيرة الموسيقى والغناء الأردنية. وبعد ليلة حب ووفاء توفيق النمري في دورة العام الماضي 2023، تواصلت ليالي دورة هذا العام بليلةِ حُبٍّ ووفاء للفنانة السورية/ اللبنانية سميرة توفيق "أردنية الهَوى والهويّة"، في تركيزٍ على الجزء الأردني الطويل والممتد من مسيرتها الطويلة والممتدة، وليلةِ حُبٍّ ووفاء للفنان الأردني الراحل فارس عوض (1956-1986) حملت عنوان: "من ترانيمِ الفقد نحوَ ألحانِ اليقين".
ليالي الحب والوفاء فكرة وإخراج الموسيقار والأكاديميّ د. محمد واصف عن نصوص للزميل محمد جميل خضر، تميزت ثلاثتها بالجانب البحثيّ الاستقصائيّ الذي أسهم في إنجاحها، خصوصًا مع شحٍّ، أحيانًا، في المواد الأرشيفية عند الحديث عن تسجيلات يعود بعضها إلى أكثر من 60 عامًا ماضية.
ولأن للفنان فارس عوض صاحب الصوت البلّوريّ المزخرف النديّ مكانة عميقة في وجدان الأردنيين، خصوصًا مع رحيله المفجع شابًا في مستهل مشواره إثر حادث سيرٍ مؤسف، فقد جاء النص الذي رافق استذكار أغنياته شجيًا: "مثلَ عابِرٍ بِنعالٍ من ريح.. مرّ من هنا الفارس الذي لا يعوّض. مثلَ هَمْسِ الحَنايا طَلُعَ من وِهادِ مادبا صوتُ فارس عوض البهيُّ كأنَّهُ الرأسُ والعِقالُ وأطباقُ السفرِ السّريعِ نحو أعالي السماء.. مثلَ مواعيد الرجاء.. فياااا لبلادٍ تسمعُها حين تناديك يا فارس الأوفياء.. الحنينُ يُناديك.. مادبا تُناديك.. عمّان حبيبتكَ تُناديك.. تُناديكَ كل آهات النّداء.. فمن قال إنك لا تجيب..؟ قَبْلَ أن يرتدَّ الصدى تُجيب.. قَبْلَ أن يَنْذِرَفَ الدمعُ تُلَبّي.. إجاباتُكَ أغانيك.. جواباتُكَ تَفانيكَ لِعيون الأردنِّ ودروبِ الفنّ في مشاويرِ ناسِهِ وحُرّاسِه.. من شجنٍ بنيتَ تفاصيلَ مشوارِكَ الإبداعيِّ المُشعِّ بِالعطاء الذي أنجزتَ من أجلهِ بأعوامٍ قليلةٍ ما لا ينجزه غيرُكَ بعشراتِ الأعوام.. من عُروقِ الأرضِ.. وَرَعَشات الدوالي.. من فُسيفساءِ الأنبياء.. من هبوبِ الريح نحوَ شمالِ القَلْبِ أو نحوَ جنوبِ الجِهات.. نحيلًا كنتَ يا فارس مثل مَطرَقِ الرمّان.. مثل زهر اللوز أو أبعد.. مثل شبلٍ من بني حميدة "ذبّاحة الدول".. لَمْلَمْتَ من قصيدِ ربعِكَ دندناتِ الزّمان.. دخلتَ دار الإذاعة لتكون لحنًا جديدًا يشبه ثوب الأردن المنسوج بألوان الوطنِ جميعها من شتّى الأصول والمنابت.. دخلتَ موهبةً وخرجتَ أيقونةً..".
طوت دورة هذا العام (الدورة 38) من مهرجان جرش صفحاتها، بما عليها وما لها، بخفقان فؤاد يمتد من عمّان إلى حوران أن يتوقّف القتل، وينتصر الحب، ويعمّ العدل، وينهزم الموت أمام الفنون جميعها، علّها تتحقّق نبوءةُ شاعرٍ شهيد: "هزمتكَ يا موت الفنونُ جميعُها".