تبحث المجتمعات بطبيعتها عن انتخاب الشخص الصالح والنظيف الذي لا تحوم حوله شبهات الفساد، فالفساد كما هم الفاسدين شيء معروف، يعرفه الصغير قبل الكبير، يومياً يتحدث به عامة الشعب مثقفيهم وبسطائهم في جلساتهم أو من خلال لقاءاتهم اليومية العفوية، حيث يأمل الجميع بانتخاب من يمثلهم ان يقوموا بتطوّير اقتصاد البلاد ويخّلصوها من الفساد المالي والإداري الذي تعيشه البلاد بشكل عام، فنجد الكل يلعن الفساد، ويسب الفاسدين جهاراً نهاراً، ويندبون حظهم والساعة التي سلط الله عليهم هؤلاء المنتخبين الفاسدين اللذين لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، لكن كل هذا الكلام، وهذه الحسرة تذهب أدراج الرياح، بتحديد يوم الاقتراع وإعلان النتائج فتكون النتيجة بانتخاب أو إعادة انتخاب المترشحين اللذين تحوم حولهم شبهات الفساد المالي أو الاداري، أو حتى منهم من ثبتت عليهم التهمة بشكل قاطع.
إن هذه الحالة اصبحت ظاهرة طبيعة ومتكررة ليست في بلادنا فحسب بل انتشرت في الكثير من دول العالم، وتحديدا العام الثالث وبالأخص الدول حديثة العهد بالديمقراطية أو التي تدعيها، حيث يعاد انتخاب الفاسدين أو من تحوم حولهم هذه الشبهات او أي شكل من اشكال الفساد، والذي يشهد على فسادهم اهتمامهم بمصالحهم الخاصة والعمل على زيادة ثرواتهم وعقاراتهم حال وصولهم مبتغاهم، في الوقت الذي يرزح فيه الشعب تحت وطأة الفساد والمفسدين، وتئن من آثاره وتداعياته نواحي الحياة جميعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والثقافية ناهيك عن افة البطالة وغيرها.
وفي الحقيقة ان استمرار عامة الشعب وبكامل وعيه وإرادته في هذا النهج السيء، الذي اصبح للأسف الشديد ظاهرة في طريقها نحو النمو والتزايد، وهي بلا شك ظاهرة مرضية اذا قدر لها الانتشار سيكون لانتشارها ونموها نتائج سلبية على مستقبل الديمقراطية في الدولة وعلى المجتمع، وستفرز فقط الذين يملكون الأموال وستحرم أصحاب الكفاءة والخبرة للوصول الى مواقع خدماتية وتشريعية تساهم بنقل المجتمع من حال الى حال افضل.
ومن هنا نرى بان تفشي هذه الظاهرة في مجتمعاتنا يعود لثلاثة أسباب رئيسة وهي:
أولا: الطمع من قبل بعض الناخبين في فتات الأموال التي يأخذها من المرشح، فيرضى لنفسه أن يكون تابعا له، أو بسبب إغرائه بالوظيفة أو التعيين وما إلى ذلك، فالنتيجة واحدة هي إعادة تدوير الفاسدين، وباعتقادي لولا وجود هذه الفئة في المجتمع لم يقدر لهذه الظاهرة بالنمو والانتشار كما هو الحال عليه الان، رغم ان الدستور الأردني اعتبر هذه الظاهرة انتهاكا صارخا بأحكام المادة (67) من الدستور الاردني، والتي توجب معاقبة العابثين بإرادة الناخبين وضمان سلامة العملية الانتخابية في كافة مراحلها (دستور الأردن الصادر عام 1952، وتعديلاته: 2011 ،2014 ،2016 ،2022).
ثانيا: الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه المواطن الأردني له الدور الاكبر في عملية بيع الأصوات، واستغلال بعض المرشحين لحاجة الناس وعرض النقود عليهم ثمنا للصوت، يقابله غض البصر من الناخب والصمت عن الفساد، مما يشجع الفاسدين الاستمرار بأعمالهم بشكل أكبر.
ثالثا: عدم فعالية القوانين مع عدم وجود رقابة فعالة ورادعة من الدولة على المقار الانتخابية قبل واثناء وبعد يوم الاقتراع، والتساهل الواضح مع حالات شراء الاصوات، بحجة الصعوبة في عملية إثبات الشراء، وان عدم ضبط انتشار هذه الظاهرة سيؤثر بشكل رئيس على تركيبة المجالس المنتخبة وعلى مستقبل الديمقراطية في البلاد والمصلحة العامة للدولة.
واخيرا نرى ان هذه الظاهرة مهما كان حجمها هي ظاهرة سلبية بكل معناها، وعلى الناخب ان يعلم ان صوته أمانة يجب أن يؤديه بما يرضى الله تعالى بعيدا عن المصالح الخاصة والأهواء، باعتباره وسيلة لإحقاق الحق، ودفع الباطل، كما يجب على من يمارس حقه في الترشيح ان يعرف الاحكام الشرعية بهذا الامر، باعتبارها ايضا خروجا على قيم المجتمع الأردني، الذي لا يبيع شهادته وضميره لقاء دراهم قليلة، وأن يعي ان استخدام المال السياسي في الحملات الانتخابية جريمة يعاقب عليها القانون، فالدستور الأردني يحتوي العديد من المواد التي تمنع شراء الأصوات.