نعيش في عصر يتسم بالتغيير المتلاحق في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلوم والتكنولوجيا. بالإضافة إلى ازدياد حجم المعارف المتاحة، حيث تتضاعف المعرفة حاليًا كل 18 شهرًا، ومن المتوقع في المستقبل القريب أن تتضاعف كل 12 ساعة وفقًا لقانون "فولر" للمعرفة. كما أن كفاءة التكنولوجيا تتضاعف كل سنتين تقريبًا وفقًا لقانون "مولر" للترانزستورات.
في هذا السياق، تتطلب بيئة العمل "رشاقة ومرونة" وقدرة على "التكيٌف"، وقابلية للتعامل مع المستجدات المستقبلية. على المؤسسات اليوم أن تقدم خيارات وخدمات تفوق التوقعات، وتلبي احتياجات ورغبات المتعاملين وفقًا لفئاتهم، وتسعى لإسعادهم بدلاً من مجرد خدمتهم. لم يعد بإمكان المؤسسات التقدم بخطوات بطيئة للمحافظة على الريادة؛ بل يجب عليها القفز وبسرعة لتحقيق تقدم ملموس. المؤسسات الريادية يجب أن تحقق في سنة واحدة ما كان يتحقق في عشر سنوات.
يقول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم " الحكومات التي لا تبتكر، تشيخ وتهرم وتخرج من السباق ومن السياق. الأفكار تجدد الدماء، وتسبق بها المنافسين، وتقلل بها التكاليف، وتعيد من خلالها اكتشاف نفسك. الاقتصاد الجديد قائم على الأفكار، والعالم الجديد يبحث عن مواهب تحمل أفكارًا جديدة. لا تتوقف عن البحث عن أفكار عظيمة من فريقك، ومن مراجعيك، ومن الناس بشكل عام. لا يوجد شيء أقوى من فكرة عظيمة".
الإبداع والابتكار المؤسسي هما الأداتان الأساسيتان لنمو المؤسسات المعاصرة واستمرارها. الإبداع يشير إلى تقديم شيء جديد لأول مرة، أو النظر إلى الأشياء بطرق جديدة. وهو الحقيقة الإنسانية التي تمكن الإنسان من فهم وتطوير ما يحيط به من أفكار أو أشياء أو أساليب. أما الابتكار، فيعني احتضان هذه الأفكار وتطويرها لتحويلها إلى منتجات أو خدمات.
وان إدارة الابتكار المؤسسي تركز على السماح للمؤسسة باقتناص الفرص، سواء كانت خارجية أو داخلية، واستخدام جهودها الإبداعية لتقديم أفكار أو عمليات أو منتجات جديدة. الأهم أن إدارة الابتكار لا تقتصر على البحث والتطوير؛ بل تشمل مشاركة الموظفين على كافة المستويات بشكل إبداعي في تطوير منتجات المؤسسة وتصنيعها وتسويقها. من خلال الاستفادة من أدوات إدارة الابتكار المناسبة، يمكن للإدارة تحفيز ونشر القيم الإبداعية لدى قوة العمل بأكملها، لتحقيق التطوير المستمر للمؤسسة.
لقد حان الوقت للقطاع العام للتوقف عن الخوف من الفشل، والتجريب، وعدم انتظار نضوج المنتجات والتقنيات لاعتمادها. عملية قطف ثمار الابتكار تتطلب جهدًا وتكلفة؛ إذ قد تصل إلى فكرة ناجحة بعد تجربة 20 فكرة. وقد يتطلب الأمر استثمارًا كبيرًا في التجريب والتطوير قبل الوصول إلى الكفاءة والفاعلية والنمو.
في دراسة حديثة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حددت العوامل المؤثرة على الابتكار في القطاع الحكومي، ومنها التغلب على الحواجز البيروقراطية، "تصفير البيروقراطية الحكومية" والاستفادة من أفكار المواطنين، وبناء علاقات مفتوحة وشفافة قائمة على الثقة، وتمكين ثقافة تدعم الابتكار.
رغم انتشار الحديث عن الابتكار والتطوير والتكنولوجيا المتسارعة، تشير الإحصائيات إلى أن غالبية المدراء في الشركات والمؤسسات الحكومية يفضلون البقاء على الوضع الحالي وتكرار نجاحات الماضي بدلاً من استكشاف عوامل النجاح المستقبلية.
التعود مصدر للراحة، والتغيير يتطلب تعبًا وخروجًا من دائرة الراحة. لذلك الناس عادة لا يحبون التغيير، بل كثيرون يحاربون من ينادي بالتغيير لأنه يتطلب منهم تغيير عاداتهم. لذلك أقول لجميع المبدعين: ستجدون دائمًا من يقاوم أفكاركم، وهذه أولى العلامات على أنكم في الطريق الصحيح للتغيير".
على الدول والحكومات التي لا تضع الابتكار نصب عينيها أن تدرك أنها ستشيخ وتخسر. القيادة الحكومية الابتكارية تتطلب شجاعة وقدرة على تبني وإدارة الأفكار الجديدة المتنوعة لمواجهة مشكلات الغد واقتناص الفرص. تتطلب القيادة الابتكارية اقتحام مساحات مجهولة، حتى لو تطلب الأمر قدراً من "المخاطرة" لاتخاذ الخطوة الأولى.
حفّز موظفيك على الخيال والتساؤل، واستمع إليهم جيدًا قبل إصدار الأحكام. تعامل مع الأفكار بإيجابية وحماس، وكن مستعدًا لتجربة الجديد حتى تصل إلى حلول عملية. تذكر أيها المدير "القائد" أن تبني ثقافة مؤسسية تواكب متطلبات العصر وتدعم الابتكار أصبح ضرورة ملحة.
تحقيق التوازن بين الثقة والمرونة يسمح لك بالعمل الجاد دون إغفال آراء الآخرين، لذلك اشرك الآخرين في قراراتك، تعلم الإنصات، كن عازمًا على التغيير، وتذكر أن التكيف والابتكار هما مفتاح البقاء والتفوق في هذا العالم المتسارع.
***خبير التدريب والتطوير والمحاضر بكلية محمد بن راشد للادارة الحكومية