في عالم الإدارة والقيادة، لا يمكن تحقيق أي مشروع أو بلوغ أي هدف دون وجود مؤشرات دقيقة وصريحة تضمن السير في الاتجاه الصحيح. الرقابة ليست مجرد إجراء إداري، بل هي أحد أعمدة النجاح التي تضمن تحقيق الأهداف بكفاءة وفعالية. من هنا، تكتسب "مراقبة النفس" أهمية كبيرة كواحدة من أبرز الوصايا التي ينبغي على كل قائد أو مسؤول الالتزام بها.
تتضمن الرقابة الذاتية أن يمتلك الفرد وعيًا عميقًا بذاته وبأدائه، وأن يكون قادرًا على تقييم نفسه بموضوعية. إن التقييم الداخلي هو الخطوة الأولى نحو تحقيق النجاح. ولتحقيق ذلك، يتعين أن تكون لديك معايير واضحة لمؤشرات الأداء التي يمكن الاعتماد عليها لقياس مدى تقدمك.
في هذا السياق، يُشير نموذج "نوافذ جو وهاري" إلى وجود أربع مناطق داخل كل إنسان:
• المنطقة المفتوحة: هي تلك الأبعاد من شخصيتك وأفعالك التي تكون معروفة لك وللآخرين. تتضمن هذه المنطقة المعلومات والمهارات التي تشاركها بوضوح مع من حولك. زيادة حجم هذه المنطقة تعزز من فاعلية التواصل وبناء الثقة بينك وبين الآخرين.
• المنطقة العمياء: هي المعلومات أو الجوانب المتعلقة بشخصيتك التي تكون واضحة للآخرين ولكنك أنت نفسك غير مدرك لها. قد تتضمن هذه المنطقة سلوكيات غير ملاحظة أو ردود أفعال تتسم بالاستجابة غير المتوقعة. من خلال تلقي التغذية الراجعة من الآخرين، يمكن تقليص حجم هذه المنطقة، مما يساعد في تحسين الوعي الذاتي وتحقيق فعالية أكبر في التواصل.
• المنطقة الخفية: تُعرف أيضًا بالمنطقة الخاصة أو السرية، وهي المعلومات التي تعرفها عن نفسك ولكنك تختار عدم مشاركتها مع الآخرين. قد تشمل هذه المنطقة مخاوفك، اهتماماتك الشخصية، أو أهدافك الخاصة. إدارة هذه المنطقة بحذر، مع الحفاظ على توازن بين الخصوصية والانفتاح، يمكن أن يحسن من جودة العلاقات والتعاون مع الفريق.
• المنطقة المجهولة: تتضمن الجوانب من شخصيتك وأدائك التي تكون غير معروفة لك وللآخرين. قد تشمل هذه المنطقة إمكانيات غير مكتشفة أو تجارب لم تُخض بعد. استكشاف هذه المنطقة يمكن أن يعزز النمو الشخصي والمهني، ويتيح لك اكتشاف نقاط قوة جديدة وفرص تطوير لم تكن على دراية بها من قبل.
يساعد فهم هذه النوافذ القائد على إدارة نفسه بفعالية أكبر والتعامل مع الموظفين بشكل أكثر كفاءة، لذلك يجب على القائد الذي يسعى إلى تطوير ذاته أن يكون واعيًا لجوانب شخصيته ويحدد نقاط القوة والضعف لديه، لأن فهم الذات يُعد مفتاحًا لإدارة الآخرين بشكل ناجح.
لكن الرقابة ليست مجرد مسألة ذاتية، بل تشمل أيضًا الرقابة الخارجية التي تشمل السياسات والتشريعات ونظم الحوكمة الفعالة. تتكامل الرقابة الداخلية والخارجية لضمان خلو أداء القائد والمؤسسة من الشوائب، مما يحقق الأهداف بشكل فعال. الرقابة تساعد في الكشف عن الأخطاء والانحرافات وتصحيحها، مما يعزز من فعالية التنفيذ ويحقق الأهداف المرجوة.
تعتبر الرقابة بمثابة بوصلة تضبط المسار وتضمن السير في الاتجاه الصحيح. فهي سمة قيادية أساسية، خاصةً عندما يتطلب الأمر تحقيق معايير عالمية عالية. لذلك، يتعين على القائد أن يحرص على وضع مؤشرات أداء قوية وطموحة، وأن يقوم بمراجعتها بشكل دوري لمواكبة التطورات العالمية.
من العناصر المهمة في الرقابة أيضًا إدارة الأخطاء. الأخطاء ليست نهاية المطاف، بل فرصة للتعلم والتحسين. التعرف على الأخطاء وقبولها بروح إيجابية يسمح بتحويلها إلى تجارب تعليمية قيمة. لذلك، ينبغي للقادة أن يتوقعوا الأخطاء المتكررة ويقيسوا ما هو مهم وليس فقط ما هو سهل القياس.
عند تطبيق الرقابة الذاتية والمؤسسية، يجب أن تشمل أركان النجاح التالية:
• وضع معايير واضحة ومؤشرات أداء تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية.
• تحديد أهداف طموحة تتجاوز البسيط والمتاح، لضمان التميز.
• تنفيذ تقييم شامل 360 درجة يشمل جميع الأطراف الداخلية والخارجية لتقييم الأداء.
• استخدام التقنيات الرقمية الحديثة لتحسين عملية الرقابة وتقييم الأداء.
• تعزيز التواصل والتعاون مع جميع أصحاب المصلحة لضمان تحقيق الأهداف.
• الالتزام بالمعايير الأخلاقية والحوكمة الفعالة للحفاظ على سمعة المؤسسة.
• إجراء تقييم مستمر للأداء ومراقبة الجودة باستخدام أساليب مبتكرة مثل المتسوق السري.
اذن تتطلب الإدارة الذاتية من القائد وعيًا كاملاً بنفسه وبأداء فريقه. فهي تشمل مهارات مثل حل المشكلات، إدارة الوقت، والذكاء العاطفي. كما تساهم في خلق بيئة عمل إيجابية وفعالة، مما ينعكس بشكل إيجابي على مستوى الأداء والإنتاجية.
وكما قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في الوصية الرابعة من كتابه "قصتي"، "لا يمكن إنجاز أي مشروع دون مؤشرات حقيقية وصريحة تلزم بها نفسك وفريق عملك. لابد من مؤشرات تضمن من خلالها أنك تمشي في الاتجاه الصحيح لتحقيق الخطة. لا تغش نفسك ووطنك بوضع مؤشرات ضعيفة ورقابة ضعيفة. راقب الأداء في مؤسستك واجعل لك رقيباً داخلياً في المؤسسة وخارجياً محايداً."
في الختام، يجب على القائد أن يتذكر أن الرقابة الذاتية ليست عبئًا بل هي أداة ثمينة لتحسين الأداء وتحقيق النجاح. من خلال الالتزام بالمعايير القوية وتقييم الأداء بشكل مستمر، يمكن للقادة تحقيق التميز ورفع مستوى المؤسسة إلى مستويات عالمية. قال الله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (سورة التوبة، الآية 105). وهذا يوضح أن الأعمال والجهود تُراقب وتُقيّم من قبل الله والمجتمع، لذا فإن الرقابة الذاتية تُعد جزءًا لا يتجزأ من النجاح والاستدامة في عالم الأعمال والإدارة.
* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتكوير/ كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية.