قبيل وصوله إلى مبنى الكابيتول لإلقاء خطابه الرابع، بيدين ملطختين بدماء ما لا يقل عن مائة وأربعين ألف ضحية بين شهيد وجريح وقطاع مدمر عن بكرة أبيه ومجاعة تضرب أطنابها في كل مكان في القطاع، عدا عن تأبطه ملفاً قانونياً أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة ضد الفلسطينيين، ومثله ملف طلب للامتثال أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بالإضافة إلى ملفه الشائن في دولته بقضايا فساد مُخزية، هذا ما حمله الحاوي إلى واشنطن، وبرغم كل هذه الفظائع إلا أنه قوبل بتصفيق حارّ منقطع النظير من مستقبليه، إما بسبب جهلهم او تواطئهم.
ولو حمل أي زعيم من أي مكان في العالم واحدا على ألف من حمل هذا الرجل لما سُمح له بدخول الولايات المتحدة أصلاً، لكن هذا هو واقع الحال الذي يشير إلى حجم هائل من الازدواجية الأميركية والتي تقيس الأمور الدولية بمعايير مصلحتها الاقتصادية والجيوسياسية أو العقائدية، وإسرائيل هي جزء صميم من المصلحة والأيديولوجية الأميركية، بالتالي فإن تصور وصول العلاقة بينهما إلى مرحلة الانفكاك وَهْمٌ لا يجب أبداً التفكير فيه، وهذا ما أثبته خطاب بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي حيث كلّت أيادي أعضائه من كثرة التصفيق على معلومات لو اتعبوا أنفسهم لبرهة وفتحوا غوغل ودققوا فيها لوجدوا حجم الرياء والكذب في محتواها، مثلاً الجيش الإسرائيلي لم يقتل أي مواطن فلسطيني في رفح، فقط، هذه تشي عن حجم الكذب في الخطاب، ومثلها أن الجيش الإسرائيلي لم يحاول قتل المدنيين وتلك أمّ الأكاذيب والشاهد عشرات آلاف القبور في غزة، لكن لندع كل تلك الأكاذيب التي صُفق لها كثيراً وندقق بمحتوى الخطاب.
الواضح أن الخطاب كان باتجاهين؛ الأول هو التزلف لترامب وجسر الهوة التي خلفتها مباركته لبايدن مباشرة، في محاولة لتعزيز موقعه لدى الجمهوريين على اعتبار أن ترامب هو الحصان الرابح في سباق الرئاسة كما تشير استطلاعات الرأي على الأقل حتى الآن، وفي نفس الخطاب حاول عدم تنفير الديمقراطيين خشية أن يتعثر ركب ترامب وتميل الكفة من جديد لمصلحة كمالا هاريس غير المستساغة لديه، والهدف الثاني من الخطاب هو رسالة متعددة الأبعاد للإسرائيليين يخبرهم أنه الوحيد القادر على فعل ذلك وأنه يحصل من مبنى الكابيتول على شهادة اعتراف بقدرته السياسية ومهاراته الخطابية، بالذات بعد أن تُبع الخطاب بلقاءات مع جميع المرجعيات السياسية الأميركية وأولهم الرئيس بايدن ونائبته كمالا هاريس والرئيس السابق والمرشح دونالد ترامب، كل ذلك أعطاه دفعة سياسية أكدت براعته الكبيرة في التعامل مع المرجعيات الأميركية باقتدار.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد حاول تجاهلها بشكل كلي عندما صور الصراع بأنه صراع بين الحضارة والبربرية، وتلك كانت الحجة التي سمحت للغرب بقتل الهنود الحمر، بناء على فتوى قدمها أحد العلماء بأن هؤلاء دون البشر ويجوز بالتالي قتلهم ويبدو أن نتنياهو يعيد تدوير العجلة من جديد، وقد صور ما يحدث على أنه عبارة عن صراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموماً وبين هؤلاء البرابرة، وأن هذه الحرب ليست حرب إسرائيل وحدها، بل حرب أهل الحضارة ضد هؤلاء المحبين للموت والكارهين للحياة، وأنه حتى تنتصر الحياة وقيم الحضارة لا بد من وقوف العالم المتحضر إلى جانب اسرائيل، وبالتالي فإن إسرائيل بهذا المعنى تعرض أبناءها للموت في سبيل الدفاع عن هذا العالم المتحضر، ولأجل ذلك اصطحب معه جنديا إثيوبيا وبدويا عربيا ليقول ها هو الجيش الإسرائيلي أمامكم يمثل قيم التنوع والتجانس العابرة للعرقيات، أماً بالنسبة للعدوان على غزة فحاول إعطاء بعض التطمينات مثل أنه ليس في نية إسرائيل احتلال غزة، ولكنه دسّ سمه في هذه المقولة عندما أردف إن من حق إسرائيل القيام برقابة أمنية على القطاع، وماذا يعني هذا غير الاحتلال! بالنسبة له لا يجب أن يكون حكام غزة الجدد كارهين لإسرائيل، وهل يمكن أن يكونوا إلا عملاء، لأنه بعد كل هذه المجازر لن يكون إلا الكره هو اللغة الوحيدة القابلة للتخاطب.
لا يمكن سماع خطاب حافل بالأكاذيب والتصفيق مثل خطاب نتنياهو في الكابيتول، وإن أشار ذلك إلى حجم الإنحياز والازدواجية الأميركية إلا أنه يشير بنفس الوقت إلى حجم الفشل والنرجسية التي نحن فيها فكل تصفيقة من 85 تعبر عن حجم الخيبة الذي نستنقع فيها وحجم الإخفاق الحضاري والإعلامي، وذلك يؤكد أننا ما زلنا على هامش الحضارة لدرجة أن حضارة صنيعة استطاعت أن تفرض نفسها وروايتها الأكذوبة، ونحن أصحاب التاريخ ما زلنا نصنع التابوهات الكاذبة والتي نمجدها وسنعبدها بعد حين، أما نتنياهو فقد حول المجازر والأكاذيب إلى بطولات استحقت تصفيق الجاهلين أو المتواطئين، والأخيرة ربما تكون هي واقع الحال.
"الغد"