في مطلع العام 1999 م تلقينا دعوة لحضور مؤتمر القاهرة الدولي للكتاب وكذلك مؤتمر ( كتاب في جريدة) والذي جاء متزامنا معه من حيث التوقيت وكان الوفد الصحفي مؤلفا من العبد الفقير لله كاتب السطور بصفتي رئيسا لهيئة تحرير المؤسسة الصحفية الاردنية ( الرأي) وزميليً الراوي والقاص والصحفي المعروف الاستاذ محمود الريماوي والشاعر والكاتب الصحفي المشهور المرحوم الاستاذ خيري منصور طيب الله ثراه ووجدتني عشية تلقي الدعوة اهاتف توأم الروح الاستاذ مؤنس الرزاز واقترح عليه طرح اسمه امام المؤتمر ليكون واحدا من كوكبة الكتاب العرب الذين سوف تسطر اقلامهم مسارات ومضامين ( كتاب في جريدة).. لكنه رفض في البداية.. وبعد الزن المستمر بمطرقة الالحاح على دماغه قال ( لعم) باللام.. وانحصرت مهمتي بعد ذلك في تحويل (اللام) المحيرة الى ( نون) الاستجابة وهي مهمة لو تعلمون, عسيرة جدا خاصة حين يكون المفاوض امامك هو الصديق اللدود والقومي الصلب مؤنس الرزاز طيب الله ثراه.
ورغم انني اعرف جيدا مفتاح الموافقة لديه وهو يعرف انني اعرف ذلك الا انني اثرت مواصلة الحوار الديمقراطي واللجوء الى الحيلة اذا اقتضى الامر لاعتصار موافقته وقلت له ما يلي: ( شوف يا اخوي يا مؤنس.. لدي اقتراح اود ان اعرضه عليك ومفاده ان اقوم بجس النبض خلال المؤتمر, فإذا كان المناخ السائد في المؤتمر مناخا قوميا موآتيا كما نتمنى انت وانا فإني سأطرح عندها اسمك ضمن قائمة المرشحين.. اما اذا كانت الجرعة القومية ضئيلة او مش ولا بد كما يقولون بالعامية فأني سأحجم عن الطرح.. ويا دار ما دخلك شر!! فطربت اذناه للاقتراح ثم وافقت عيناه على مضض!! اما انا فقد تنفست الصعداء!!
وبالمناسبة فان المشروع القومي الثقافي ( كتاب في جريدة) لمن لا يعرف هو مشروع ثقافي كبير اطلقته منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونيسكو) في العام 1995م. وكانت اعداد ( كتاب في جريدة) تصدر مجانا مع الصحف الصادرة في وطننا العربي كأداة لنشر الادب العربي وتقليص مساحة التصحر الثقافي وتعزيز وحدة اللغة العربية, وهذه كلها اهداف قومية جليلة.
ويكفي القول بان المشروع القومي الثقافي الجبار ( كتاب في جريدة) بأشراف وادارة شخصية اعلامية وثقافية وسياسية قديرة وهو الصديق الشاعر و الدبلوماسي العراقي الدكتور شوقي عبد الامير والذي بفضل جهده وصبره ومثابرته وصل رقم التوزيع الى نصف مليار نسخة لحوالي (160) كتابا خلال ستة عشر عاما!!
حاصله.. وصلنا نحن اعضاء الوفد الاردني الثلاثة الى القاهرة وبدأت في اليوم التالي اعمال المؤتمرين المذكورين.. وكان شغلي الشاغل ينصب على ضرورة تحقيق هدفين اثنين بالإضافة طبعا الى الاهتمام ببنود جدول اعمال المؤتمرين وكان همي الاول هو : مواصلة المساعي التي كنت قد بذلتها في وقت سابق مع الزملاء في( الاهرام) القاهرية لتنفيذ مشروع توامة بين ( الرأي) الاردنية ونديدتها( الاهرام) المصرية!! والثاني ترشيح الكاتب المعروف مؤنس الرزاز من اجل الانضمام الى كوكبة الفرسان العرب صناع ( كتاب في جريدة)
وعشية اليوم الثاني لانعقاد المؤتمر اقام الدكتور سمير سرحان رئيس مجلس ادارة الهيئة المصرية للكتاب حفل عشاء فاخر في دارته الجميلة بالقاهرة على شرف الوفود العربية المشاركة في المؤتمرين المذكورين.. وعندما دلفنا الى قاعة الطعام قلت مخاطبا ذاتي: لعل الفرصة, يا عبد السلام, فد لاحت لطرح موضوع ترشيح( مؤنس) على مائدة العشاء وتحويل حفل العشاء الى عشاء عمل ليكون البند الاساسي امامه هو ترشيح (مؤنس الرزاز) لعضوية ( كتاب في جريدة)!!
وبما ان بصلتي محروقة في اغلب الاحيان فقد تراءي لي بان الوقت مناسب للشروع بمفاتحة الزملاء بهذا الامر هذه الليلة ..وهكذا كان!! وكانت مني التفاتة فرأيت رئيس الوفد الفلسطيني الشقيق وهو القامة الوطنية العربية الفلسطينية الباسقة والشاعر الكبير الأستاذ سميح القاسم طيب الله ثراه يقف على بعد خطوتين مني.. فتقدمت خطوة ثم تنحنحت وقلت بصوت هادئ ومسموع: يا مرفوع الهامة!! فالتفت الي وقد ارتسمت على محياه الطيب ابتسامة عريضة.. ثم اردفت وقلت: نعم... اياك اعني يا منتصب القامة ويا شاعر المقاومة الكبير.. وهذا الوصف بالمناسبة من احب الاوصاف الى نفسه!! فاتجه نحوي وسرنا سويا يداً بيد ثم انتحينا جانبا وقلت له: يا اخي في العروبة والدم والمصير.. اريد استشارتك بموضوع يشغل بالي وهو اننا نحن اعضاء الوفد الاردني سنطرح غدا امام المؤتمر اسم الاستاذ مؤنس الرزاز كمرشح للكتابة في ( كتاب في جريدة).. ما رأيك؟ وبما انكم يا اشقاءنا الفلسطينيين انتم توأم الروح لنا واقرب الاشقاء العرب الى قلوبنا فقد ارتأيت ان ابدأ الحديث معكم بهذا الشأن.. فبدت معالم الاستحسان على وجهه واجاب على الفور: امض على بركة الله فأنا اقرأ للأستاذ مؤنس كثيرًا وهو كاتب قدير وكفاءة ادبية وثقافية متميزة.. وان حصوله على العضوية يعتبر مكسبًا كبيرًا للمشروع الثقافي القومي ( كتاب في جريدة): ولكم منا كل الدعم فمرشحكم نعتبره بمثابة مرشحنا وتستطيع اخي عبدالسلام الاعتماد على ما اقول فشكرته وقبلت وجنتيه: ثم ذهبنا معًا لنتناول طعام العشاء مع زملائنا اعضاء الوفود العربية.. وخلال العشاء استكملت انا وزميلاي الريماوي ومنصور المساعي مع سائر الزملاء لترشيح ( مؤنس ) لعضوية ( كتاب في جريدة).
لقد فاتني ان اقول بأن القصيدة العصماء التي طبقت شهرتها الآفاق القومية والعالمية وهي بعنوان ( منتصب القامة امشي ) هي من تأليف الشاعر العربي الفلسطيني الكبير الاستاذ سميح القاسم طيب الله ثراه ويقول مطلعها ( منتصب القامة امشي.. مرفوع الهامة امشي .. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي .. وانا امشي .. وانا امشي .. وانا امشي .. )
وعود الى موضوع المؤتمر, فقد تم طرح الاسماء المرشحة في اليوم التالي وكان اسم (مؤنس) يتصدرها.. وجرت الانتخابات بطريقة نزيهة وشفافة بحق وحقيق وعلى العكس والنقيض من الطريقة السائدة في اوساط الانتخابات النيابية والحزبية المتبعة في بعض اقطارنا العربية حيث تسود طريقة شراء الاصوات.. والمال الاسود.. والمال الرمادي.. والفهلوة.. والهمبكة.. والواسطة.. والفردية.. والفوقية.. وما الى ذلك!!
وقد امتلأت نفسي غبطة وانا ارى اسم مؤنس وهو يحصد الاصوات حصدا وبطريقة مذهلة جعلتني اقول بانه اكل الجو خلال التصويت.. ومن طريف ما يذكر ان احد اعضاء الوفد المصري ادلى بصوته لصالح الاستاذ مؤنس وعن قناعة تامة.. وعلمت فيما بعد انه تلقى لوما عنيفا من زملائه في الوفد المصري وكان اللوم يقف على تخوم التلويح بالعقوبة!!
وبعد ان اعلنت الاسماء الفائزة بعضوية ( كتاب في جريدة)وكان الاخ مؤنس في الطليعة غمرتني الفرحة انا وزميلاي في الوفد الاردني.. وبعد انتهاء الجلسة سارعت الى الاتصال مع (عمان) لابلاغ مؤنس بالفوز الباهر.. وهاتفت منزله فرد على الخط الارضي دولة الدكتور عمر الرزاز فالقيت عليه التحية ثم بشرته بفوز شقيقه مؤنس ونيله عضوية ( كتاب في جريدة).. فسر كثيرا وقال الحمد لله.
وطلبت منه ان اتحدث مع مؤنس فقال انه يغط في نوم عميق.. عندها طلبت منه ان اتكلم مع السيدة الفاضلة طيب الله ثراها ( ام مؤنس) لابارك لها بالفوز.. وعندما اطل صوتها على الطرف الاخر من الخط قلت: لك التحية يا ام مؤنس.. واضفت مازحا: هل لديك من يتقن الزغرودة؟.. فضحكت وقالت من المؤكد ان صديقك مؤنس قد فاز! فقلت: هو ما قلت.. وبامتياز يحسب له ولقلمه! ثم اعربت عن فرحتها وقالت: ان هذا الفوز سيدخل السرور على قلب مؤنس.. والحمد لله اولا واخيرا.
حاصله.. بعد الفوز المؤزر لذي تحقق وجدتني اتفرغ لمتابعة الامور المتعلقة بمشروع التوأمة بين ( الرأي) الاردنية و ( الاهرام) المصرية والذي كنت قد مهدت له في السابق.. ولكن امرا جللا ومصابا اليما وقع على رأسي وقوع الصاعقة وحال دون الاستمرار في المشروع .. فقد تلقيت اتصالا هاتفيا من المؤسسة الصحفية الاردنية ( الرأي) والتي كان لي شرف رئاسة مجلس إدارتها ورئاسة هيئة تحرريها وكان الاتصال يحمل نبأ موجعا وصعبا هبط على قلبي ووجداني بمثابة الصاعقة وهو رحيل جلالة الملك الحسين الى جوار الباري عز وجل.. وتملكني الحزن النبيل والاسى الممض والوجع القاسي.. وغامت الدنيا في عيني.. واظلم نهارها.. وغدا فضاؤها في عيني اضيق من خرم ابرة في ليل موحش!! فاستأذنت والحالة هذه من رئاسة المؤتمر للمغادرة على الفور وكان حال زميلي مثل حالي فغادرنا الى الفندق ولزمنا غرفنا والحزن يملأ قلوبنا وقررنا العودة الى الاردن غدا صباحا..
واعتكفت في غرفتي غير مصدق برحيل اغلى ما نملك وهو الحسين العظيم طيب الله ثراه وتملكتني نوبة من البكاء.. تلتها ثانية اشد وقعا.. ووجدتني اغفو لبرهة قصيرة.. ثم اصحو مذهولا تحت وطأة الحزن والهم والمصاب الجلل!!
وفي وقت متأخر من مساء تلك الليلة القاسية على قلبي والصعبة على وجداني رن جرس الهاتف فلم اُجب وقرع جرس الباب فلم استجب لانني لم اكن في وضع يسمح لي بان استقبل احدا او اكلم مخلوقا! واستمر الطرق على الباب وبشدة هذه المرة.. فاضطررت عندها الى القاء نظرة من خلال العين السحرية لارى من هو الطارق .. واذا به الصديق العزيز الدكتور شوقي عبد الامير وبمعيته عدد من اعضاء الوفود العربية المشاركة في المؤتمر.. عندها وجدت من الواجب ان استقبلهم رغم سوء حالتي ووضعي لان الهدف واضح وهو تقديم التعازي لي ولزميلي برحيل فقيد الامة والوطن الحسين العظيم طيب الله ثراه.
وحال دخولهم الى غرفتي شرع الزملاء بمواساتي والتخفيف من حزني البالغ عبر الحديث عن دور الحسين الكبير وحضوره البهي ومكانته المرموقة على الصعد القومية والاقليمية والدولية.. فيما استغرقت انا في لجة من الحزن العميق.. زوادتي الصبر والدعاء.. واستذكار قسمات الحسين البهية وحضوره الجميل ودوره النبيل.. وكنت اداري حزني ووجعي امام الحضور واحبس بالكاد دمعة حرى من ان تهطل من محجر عيني فتظهر ضعفي في مواجهة المصاب الجلل!!
وتواصل الحديث وانا اتذرع بالصبر والصمت فيما اقترب احد الزملاء مني وتحدث بصوت اقرب الى الهمس في محاولة لانتزاعي من عزلتي وصمتي وقال: اخي عبد السلام عظم الله اجركم.. انا المح مدى الحزن الذي يعتريك وارى الصدق الذي يقطر من ثنايا صمتك ووجعك.. فانت هنا في القاهرة وعلى بعد مئات الاميال من الاردن ولا احد يراك سوى رب العالمين ومع ذلك تبكي بحرقة وصدق .. فقل لي بربك ما هو السر العجيب والحبل السري والرباط الوثيق الذي يربط بين جلالة الحسين وشعبه الى هذه الدرجة؟!
فصحوت على الفور من غفوتي ونفضت رداء الصمت وقلت: السر يا صديقي هو اننا في الاردن نحب الحسين لا نخافه.. نعم نحب قائدنا الغالي ولا نخشاه.. فنحن نعتبره وطننا.. ومصدر فخرنا واعتزازنا.. ونعتبره اغلى ما نملك.. وهو يحنو علينا بعبائته الضافية ويعتبرنا اغلى ما يملك
نعم نحن نحبه يا صديقي ولا نخافه.. وشتان بين الحب والخوف!!
ولم اكرر ما قلت بعد ذلك على مسمع من الزميل العربي المتحدث مخافة ان اثير حساسيته وحسده نحو امر نملكه نحن في الاردن ولا يمتلكه هو هناك في بلده!! وغادر الزملاء غرفتي لكنني ظللت اتجرع حزني واكرر في سري وفي علني: نعم نحن نحب طيب القسمات حسيننا العظيم ولا نخافه!!
وظللت اكرر في سري وفي علني لقد رحل الحسين العظيم طيب الله ثراه ولا اعتراض على حكم الله رحل عنا ولكنه لم يرحل منا ومن قلوبنا ومن وجداننا!!
رحل عنا ولم يرحل منا الحسين الغالي الذي ينطبق عليه وصف الشاعر العربي حين قال:
مضى طاهر الاثواب ما من بقعة غداة ثوى الا اشتهت انها لقبر