رصيد النظام السوري يتناقص بسرعة مذهلة.. كل يوم جمعة، يتآكل هذا الرصيد ويتبخر.. عشرات الشهداء يسقطون، وتتحول مراسيم دفنهم، إلى تظاهرات متجددة، أكثر غضباً.. يسقط فيها الشهداء الذين يتعين تشييعهم أيضا، لتتحول جنائزهم من جديد، إلى تظاهرات أشد غضباً، وهكذا تستمر حلقة الانتفاض والقتل المغلقة.. رصيد النظام بعد «جمعة الغضب» نفد، فلم يعد قادراً على استلام الرسائل «النصّية» و»الصوتية»، حتى من الأرقام الصديقة.. لم يبق لدى النظام، سوى رقم هاتفي واحد يمكن أن يطلبه: نداء الاستغاثة.
حدّثنا مسؤول تركي رفيع عن «طاقة التغيير» التي ما زالت كامنة لدى النظام.. لا أدري هل هو تفكير واقعي أو تفكير «رغائبي».. كان ذلك في يوم «جمعة الغضب» بالذات.. لكن المسؤول إياه، المولج هذا الملف وغيره من ملفات المنطقة، اضطر الى أن يكون مختصراً جداً في حديثه معنا، لقد وصلت المكالمة الهاتفية، وتعيّن عليه أن يغادرنا، فالتطورات في سوريا مقلقة ومتلاحقة.. لا أعرف من هاتفه ولا ما قاله له.. لا أعرف أية أخبار جاءته من سوريا.. كل ما أعرفه أن رهان «تركيا» على «طاقة النظام على التغيير»، قد نفد.. الأرجح أن «طاقة التغيير» قد نفذت، أو هي بالكاد تكفي لإطلاق آخر «ومضة».
لقد راهنت تركيا على وجود «قبس من هذه الطاقة» في عروق النظام وأعصابه.. «نصحت» القيادة في دمشق بأن تبادر إلى فعل «شيء ما» ينقذ الموقف ويحول دون انزلاق سوريا إلى أتون حرب أهلية دامية.. ثم تحوّلت «النصحية» إلى ما يشبه «الإنذار»، الذي نقله رئيس المخابرات التركية إلى الرئيس بشار الأسد: أوقفوا القتل والاستخدام المفرط للقوة.. إذهبوا فورا إلى مائدة الحوار الوطني الشامل الذي لا يستثني أحد.. إشرعوا في تنفيذ إصلاحات جوهرية شاملة وسريعة، لا تقسيط في الإصلاح ولا سرعة «سلحفائية».. المطلوب التحرك بجدية، وشمول وإخلاص.. المطلوب التحرك الآن.. رد سوريا على الرسالة التركية رأيناه في درعا وجاسم والميدان وغيرها من مدن الغضب السورية.
مَثَلُ تركيا، مثل عدد كبير من أصدقاء النظام السوري أو حتى خصومه ومنتقديه من خارج أطر «المؤامرة» ومن خارج «نادي المتآمرين».. لقد راهنوا جميعاً على «طاقة التغيير».. لقد راهنوا على «الذكاء الفطري» والذي كان يملي على النظام في دمشق، أن يتعلم وأن يتعظ مما جرى ويجري في مصر وتونس وليبيا واليمن.. لكن النظام برهن بأن لا يتوفر على أية طاقة تغييرية.. النظام برهن على محدودية ذكائه.. لقد ارتكب الأخطاء ذاتها، وعقد الرهانات ذاتها، ظنّا منه أنه سيحصل على نتائج مختلفة.. لا أدري كيف يسلك المرء ذات الطريق ويتوقع أن يصل إلى نهايات مختلفة؟!.
لقد قيل قديماً، أن العاقل من اتعظ بتجارب غيره، وأن فاقد الرشد هو وحده، من يجعل من نفسه، حقل تجارب واختبار.. يبدو أن كثير من أنظمتنا، لا تستحق أن توصف بالعاقلة، بل أن بعضها لم يستحق بعد مرتبة «فقدان الرشد»، لقد أعمتهم السلطة وأغشت أبصارهم فهم لا يرون ولا يسمعون.
دماء كثيرة سالت في مختلف محافظات سوريا ومناطقها.. كفيلة وحدها بتخليق الاستنتاج بأن النظام في دمشق وصل إلى طريق مسدود.. لا طاقة للتغيير والإصلاح لديه، وظهره إلى جدار.. لقد حفر قبره بيده كما يقال.. لم يعد قادراً على البقاء من دون العنف المفرط.. لم يعد يرى إلى شعبه إلا عبر «مهداف» البندقية» وفوهة الدبابة.. يداه أوكتا وفاه نفخ.. وعلى نفسها جنت براقش.. وبراقش هنا ليست فرداً بعينه.. براقش هي النظام بمجمله، لا يهم إن كان القرار في يد الرئيس أم أنه أفلت من يده إلى أيادي الحفنة المحيطة به، من معاونيه وأقربائه وأنسبائه وأصهاره، كما توحي بذلك العقوبات الأمريكية.. مسؤولية النظام عن الدم المهدور، مسؤولية جماعية.. هذا النظام ما عاد قادراً على الاستمرار في حكم سوريا بالوسائل التقليدية.. هذا النظام غير قادر على اعتماد وسائل حديثة وعصرية لممارسة الحكم.. هذا النظام فقد شرعيته، وها هو يدخل سوريا ويدخلنا معها، في أتون انقسام واحتراب، نعرف كيف بدأ، ولن نعرف نعرف كيف سينتهي، إلى أن يُسدل الستار على فصل الختام.
قد لا يكون التغيير وشيكاً في سوريا.. وقد يحتاج الشعب السوري إلى فترة أطول من تلك التي يحتاجها شقيقاه في ليبيا واليمن للخلاص من نظامي حكم دمويين.. لكن نظام سوريا بعد «جمعة الغضب» لم يعد هو ذاته قبلها.. وما كان بمقدور النظام أن يفعله قبلها، لم يعد بمقدوره أن يفعله بعدها.. لقد جرت دماء كثيرة في الطرق والشوارع السورية.. وحين تكون المعادلة: الشعب أم النظام، فإن الجواب لا يحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل، سيذهب النظام مهما كانت الأكلاف والآلام.. الأسد وضع نفسه على سكة القذافي وعلي عبد الله صالح.. لقد فعل ذلك طائعاً.. لقد جازف بخسارة كل شيء.. لقد استنفد كل الأعذار والذرائع والأكاذيب.. لقد خسر روايته بالكامل.
الدستور