إعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد العهد العثماني
د. نعيم الملكاوي
24-07-2024 12:36 AM
تحليل شامل للعوامل الظاهرة والخفية
مع انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، شهد المنطقة تحولات جذرية أعادت رسم خريطتها السياسية والاجتماعية . هذه التغييرات لم تكن نتيجة لعامل واحد أو هدف منفرد ، بل كانت محصلة لتفاعل معقد بين قوى متعددة ، بعضها ظاهر للعيان وبعضها الآخر خفي وراء الكواليس . نسعى لتقديم تحليل شامل يجمع بين العوامل الرئيسية والخفية التي شكلت المنطقة في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ البشرية .
1. المصالح الاستعمارية والتقسيمات الجغرافية :
كان للقوى الاستعمارية الأوروبية ، وخاصة بريطانيا وفرنسا ، دور محوري في رسم حدود الدول الجديدة . حيث مثلت اتفاقية سايكس-بيكو عام (1916) الإطار العام لتقسيم مناطق النفوذ . ومع ذلك ، فإن الشبكات الاستخباراتية والدبلوماسية السرية لعبت دوراً خفياً في صياغة هذه السياسات . شكلت تقارير عملاء مثل توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) مرتكزاً لصناع القرار في لندن وباريس .
2. المشروع اليهودي ووعد بلفور :
وعد بلفور عام (1917) كان خطوة هامة نحو إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين . لكن وراء هذا الوعد العلني ، كانت هناك مفاوضات سرية وضغوط من جماعات النفوذ اليهودية في أوروبا وأمريكا لتجسيد هذا المشروع على ارض الواقع . إن الوثائق التي كُشف عنها لاحقاً تظهر مدى تعقيد العلاقات بين الحركة اليهودية والحكومة البريطانية حينها .
3. الحركات القومية العربية والصراعات الداخلية :
الثورة العربية الكبرى (1916) بقيادة الشريف حسين بن علي كانت محاولة لتأسيس دولة عربية موحدة . لكن الخلافات بين القوى المحلية والصراعات الطائفية والعرقية أثرت بشكل كبير على تشكيل الحدود وتحقيق هذا الطموح . على سبيل المثال ، الصراعات بين السنة والشيعة في العراق ، ومطالب الأكراد بالحكم الذاتي ونشوء الصراع العربي )الفلسطيني) /اليهودي كلها لعبت دوراً مهماً في رسم الخريطة السياسية للمنطقة .
4. الاعتبارات الاقتصادية والنفطية :
اكتشاف النفط غيّر من حسابات القوى الكبرى . شركات النفط الغربية مثل شركة النفط ( الأنجلو- فارسية BP ، رويال دوتش شل Shell ، شركة النفط الفرنسية التي أصبحت Total و مجموعة من الشركات الأمريكية التي شكلت لاحقاً شركتي & Exxon Mobil ، كان لها الدور الأبرز في تشكل السياسات وصناعتها . اتفاقية الخط الأحمر (1928) مثلت تقسيماً للموارد النفطية بين القوى الغربية ، مما أثر بشكل مباشر على رسم الحدود وتشكيل الكيانات السياسية حسب تفاهمات ومبدأ توزيع المنافع بين القوى الفاعلة في مناطق النفوذ التي شملت ( العراق ، سوريا ، الأردن ، لبنان ، الأراضي الفلسطينية والسعودية باستثناء المنطقة الشرقية والكويت ).
ان اتفاقية الخط الأحمر تعتبر من اهم الاسس التي تقودنا الى إدراك العوامل المعقدة التي شكلت التاريخ الحديث للشرق الأوسط .
5. الإرث العثماني والشبكات التجارية القديمة :
رغم انهيار الإمبراطورية ، استمر تأثير التقسيمات الإدارية العثمانية القديمة على الحدود الجديدة . كما أن الشبكات التجارية والاقتصادية التي نشأت خلال العهد العثماني استمرت في التأثير على العلاقات بين المناطق المختلفة ، مشكلة أساساً للروابط الاقتصادية الجديدة .
6. الصراعات الداخلية في الحكومات الغربية :
كانت هناك خلافات داخل الحكومات البريطانية والفرنسية حول كيفية التعامل مع المنطقة . الصراع بين وزارة الخارجية البريطانية والمكتب الهندي حول السياسة المنوي نهجها في الخليج العربي ، على سبيل المثال ، أثر بشكل كبير على القرارات المتخذة .
7. التأثير الثقافي والفكري :
انتشار الأفكار القومية والحداثية في المنطقة ، من خلال البعثات التعليمية والصحافة ، لعب دوراً في تشكيل الهويات الوطنية الجديدة وتسطيرها . مجلات مثل "المنار" لمحمد رشيد رضا كانت من المنابر المهمة للأفكار الإصلاحية والقومية ، مؤثرة على الوعي السياسي في المنطقة .
8. الخطط الإستراتيجية طويلة المدى :
كانت هناك خطط إستراتيجية بعيدة المدى وضعتها القوى الكبرى . مشروع "حزام القوس" البريطاني والنقطة الرابعة ، الذي هدف إلى إنشاء سلسلة من الدول الحليفة من الهند إلى البحر المتوسط ، أثر بشكل كبير على تشكيل المنطقة وترسيخ النفوذ البريطاني فيها.
9. التنافس الاستعماري الخفي :
رغم التحالفات الظاهرة ، كان هناك تنافس خفي بين القوى الاستعمارية . محاولات إيطاليا وألمانيا للحصول على موطئ قدم في المنطقة دفعت بريطانيا وفرنسا لاتخاذ إجراءات استباقية في بعض المناطق فيما اتجهت إيطاليا الى الشمال الافريقي.
10. تأثير الأزمات الاقتصادية العالمية :
أثر الكساد الكبير في الثلاثينيات على السياسات الاستعمارية وقدرة الدول الغربية على الاستمرار في السيطرة المباشرة ، مما أدى إلى تغييرات في أشكال الحكم والسيطرة في بعض المناطق لتخدم مشروع الاحلال والتوطين .
في الختام، فإن إعادة تشكيل المنطقة بعد العهد العثماني كانت نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل متعددة ، بعضها ظاهر وبعضها خفي . بينما كان للمشروع اليهودي والمصالح الاستعمارية دور بارز ، فإن العوامل الاقتصادية ، الصراعات الداخلية ، التأثيرات الثقافية والفكرية ، والخطط الإستراتيجية طويلة المدى كلها ساهمت في تشكيل الواقع الجيوسياسي للمنطقة.
وفهم هذه العوامل مجتمعة يساعدنا على إدراك التعقيدات التاريخية التي شكلت الشرق الأوسط الحديث ، ويوفر إطاراً أفضل لفهم التحديات المعاصرة التي تواجهها المنطقة وكيفية صناعة القرار وإدارته .