في ثقافتنا العربية يحلم غالبية الاباء بان ينجحوا في نقل كل القيم والمعاني والصفات النبيلة لاولادهم ويقضي البعض اخر لحظات حياته وهو يوصي ابناءه بان يحرصوا على فعل كل ما هو خير وفضيلة.
بنفس الحس والروح يأمل الابناء ان ينالوا رضى الآباء حتى بعد غيابهم فيعملوا كل ما بوسعهم للحفاظ على السيرة العطرة لعائلاتهم و الارث الأخلاقي والسمعة الحسنة لاباءهم واسلافهم، فلا يتحرك احدهم حركة او يقوم بمهمة الا بعد طلب الرضا فيقول "يا رضا الله ورضا الوالدين " ، ويعلل العامة نجاح البعض في الحياة ويعيدونه الى رضا الله ورضا الوالدين فيقولون فلان رضي اي انه يفعل ما يرضي والديه ويرضي الله.
الشيخ إبراهيم رجب قطيش الفاعوري احد رجالات السلط الذين عرفوا الاردن جيدا وجابوا ارجاء البلاد واهتموا بالشأن العام و فاضوا على محيطهم كرما وحبا وخلقا وهو رجل رضي كما عرف عنه حرص ان يورث كل الأخلاق والقيم التي نشأ عليها لابناءه الذين ساروا على نهج والدهم وحافظوا على سيرة اسلافهم العطرة.
لقد حملت شخصية الشيخ إبراهيم "ابو عماد" كل القيم والمعاني والمثل العربية التي يطمح كل اخيار الأردنيين التحلي بها، وكان حريصا على ان يلتزم بها فكرا وسلوكا ونهجا كما تحلى بها رفاقه ومن كانوا على شاكلته في الزمن الاردني الجميل فاحببناها وتمنينا لو استمرينا على نهجهم واصبحنا نترحم على أرواحهم ونشعر اننا بحاجة لوجودهم كلما تسارع تبدل الأيام.
ابو عماد صاحب الكف الندي والقلب المحب كان واحدا من القلائل الذين يتسامون على الصغائر و يستمتعون بالبذل ويعطون بلا منة.و من غير تكلف ولا عناء نقل لابناءه كل الصفات والشمائل التي احبها الناس فيه، ونجح في ذلك لدرجة تشعرك في كل مرة ترى احدهم انك تلتقي الشيخ إبراهيم فهم يفيضون دفئا ويغمرونك بكرم خلقهم وياسرك طيب ملقاهم.
اليوم سعدت بتلبية دعوة من احد ابناءه على العشاء، فقد اكرمني الشيخ رجب قطيش نجل المرحوم الذي حمل اسم جده بدعوة على حفل عشاء اقامه في ديوانه العامر على ربوة عمانية جميلة ودعى اليه العشرات من الاطباء ورجالات السلط وأصدقاء العائلة، كان ذلك بمناسبة تخرج كريمته من كلية الطب.
على جمال الطقس ورحابة المكان وكرم الضيافة كانت المناسبة فرصة لانثيال الذاكرة واسترجاع الكثير من صور الماضي وايامه التي اتاحت لنا التعرف على المرحوم والرجال الذين كانوا على شاكلته.
ففي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي كان الشيخ إبراهيم قطيش بكامل حيويته يلتقي باصدقاءه وبعض زملاء عمله السابق ممن عملوا في دائرة الأراضي، كان يعرف معظم رجالات الاردن وأهل الحل والربط.. وكان صاحب كلمة وقول جريء فهو احد اعمدة المجالس التي يلتقي فيها رجال العمل العام ووجهاء المجتمعات المحلية مع نخب المثقفين والصحفيين والضيوف.
في تلك الأيام كانت مضافة الشيخ إبراهيم قطيش في غرب عمان ودارة الحاج محمود سعيد في عين الباشا ودارة عصام كساب في منطقة الدوار السابع منتديات يلتقي فيها الاصدقاء من مختلف الاطياف.. لقد رحل ثلاثتهم لكن سمعتهم واثرهم ظل باقيا.
في بيت الاخ رجب قطيش وعلى ارض ديوانه اتيح لنا اللقاء برئيس بلدية السلط ابو العبد الحياري وجمع من رجالات السلط حيث تحدثنا في الشأن العام ومررنا على سيرة الرجال الذين تركوا بصمات عميقة على وجدان الاجيال وتقابلنا مع الرجال الافاضل من ابناء واحفاد إبراهيم قطيش ممن خدموا بلدهم وكرسوا روح العطاء.
قابلنا الدكتور عزالدين إبراهيم قطيش احد اهم جنرالات الخدمات الطبية السابقين وواحدا من المع الاستشاريين في التداخلات والتشخيص الشعاعي وتبادلنا الحديث مع مضيفنا الشيخ رجب الحشم الذي يشعرك وهو يطوف على ضيوفه بأجواء الاردن وروح ابناءه التي احببناها ولا نزال نحبها.
ام الشيخ عماد الابن الاكبر للمرحوم فقد حضر ليدعونا الى العشاء وكان بحركاته وطلته وملامحه وايماءاته يشبه والده، وكلما دققت النظر في ملامح عماد تشعر بحجم الود والألفة وانتفاء المسافة بين الاردنيين مهما نأت المسافات بينهم.
الاردنيون يشبهون بعضهم في المحتوى حتى وان اختلف الشكل فهم متحدون في شعورهم وتفكيرهم وسلوكهم يضحكون على نفس الطرفة ويغضبون لنفس السبب ويشتركون في الفرح والبسمة والفكرة والوجود ويملكون جنسية ثقافية مميزة لا تحتمل او لا تقبل التزييف.
اعرف كم يحب الناس رجالاتهم ورموزهم واعرف كيف انهم كانوا ولا زالوا المثل الأعلى لكل ما هو خير ونبل وفخر.
في اكثر من مرة عبر لي الصديق زيد المناصير "ابو سيف" عن درجة حبه وتأثره بالخال الذي رحل ولم ترحل خصاله الحميدة ولا صورته التي نستحضرها كلما واجهنا مواقف تحتاج إلى الحكمة العتيقة.
التعلق بالرجال العتاقى الذين رحلوا له سببان الأول انهم كانوا متزنين اشياء كرماء غيورين والثاني ان هويتنا جرى تجريفها واستبدلنا خيارنا بأشخاص ضعاف مستلبين ولينيين ليسهل تمرير كل شيء ففقدنا وزننا النوعي ودخلنا مرحلة انعدام الوزن.
الرحمة لروحك يا أبا عماد ..والشكر كل الشكر لانجالك الكرام وتحية لأهل الاردن وابناءه الذين يصرون على حب بلدهم والتعلق بترابه وتراثه ويؤمنون بمستقبله رغم كل المعوقات.