ماذا لو لم أقابل فرانك سيناترا؟
د. موسى برهومة
20-07-2024 01:30 PM
عندما استعصى الأمر على الصحفيّ الأمريكيّ جاي تاليز، وباءت محاولاته لمقابلة فرانك سيناترا (1915- 1998) بالفشل، لم يقفل عائداً إلى منزله يجترّ خيباته، بل احتال على الأمر، وما أجملَها من حيلة. لقد أنجز قصّة إخباريّة مطوّلة عن النجم الموسيقيّ الأكثر شهرة في العالم، وحاكم زمانه (آنذاك) بلا منازع، بحيث أنّ كلّ شيء يفعله، ولو بدا تافهاً، يغدو خبراً في الإعلام، فتتسابق إلى لقائه الصحف والتلفزيونات ووكالات الأنباء. إنه خبر، بل الخبر.
وكجزء من الرغبة في الاستحواذ على شيء من سيناترا، استعانت مجلة إسكواير (Esquire) الأمريكيّة الشهيرة بالصحفيّ تاليز، الذي كان عمل في "نيويورك تايمز"، من أجل إنتاج قصّة إخباريّة عن سيناترا (الذي كان يقترب العيد الخمسون لميلاده) لكنّه رفض السماح لتاليز بإجراء المقابلة (وربما كان ذلك بسبب نزلة بَرْد أصابت سيناترا). بيْد أنّ الصحفي الفذّ لم يستسلم لهذا الرفض، ومضى يوثّث لقصته الإخباريّة التي غدت، بعد نشرها (في 15 ألف كلمة) أفضل قصّة نشرتها المجلّة في تاريخها، وهو ما نوّهت به في أكتوبر 2003 أثناء الاحتفاء بالذكرى السبعين لتأسيسها.
استعان تاليز بأكثر من مائة مصدر مقرّب من سيناترا، وأجرى معهم حوارات (بينهم أبناء سيناترا)، كما رافق الموسيقيّ في أكثر من مناسبة، سواء تصوير أغنية، أو مشهد من فيلم، أو حتى مراقبته من قرب، في مطاعمه المفضّلة، أو في أمكنته التي يمضي فيها بعض الوقت (قبل أن يأتي الفجر متلصّصاً). لذا يبدأ تاليز قصّته الإخباريّة:
"بكأس من ويسكي "البوربون" في إحدى يديه، وسيجارة في اليد الأخرى، وقف فرانك سيناترا في زاوية مظلمة من البار بين شقراوين جذّابتين، إنما خاملتان، تجلسان في انتظار أن يقول شيئاً".
وعبر سرد ممتع وجذّاب ومشوّق، يشبه إلى حد بعيد السرد الروائيّ الحاذق الذي لا يتأتّى إلّا للمهَرَة، يمضي الصحفيّ الأمريكيّ في تصوير عالم سيناترا، الذي سنتخيّل أنه يحكم أمريكا بالفعل، نظراً لسطوته وثرائه اللامحدود، وموهبته الاستثنائيّة، والكاريزما التي يتمتّع بها، بحيث أضحى كما يصفه تاليز "غولاً" يلتهم من حوله، لكنّ ذلك لا يعني أنه شخص سيئ، فهو أحد الموسيقيّين العباقرة المرهفين الأكثر تأثيراً في القرن العشرين.
ومن أجل أن يتوصّل القارىء إلى نتيجة كهذه، عليه أن يواصل ملاحقة التفاصيل (وما أعذبَها) التي يرصدها هذا الصحفيّ/ الأديب بأناقة ومهارة وذكاء ومهْنيّة ونزاهة (بعيداً عن ضغينة الانتقام، لأنه رفض مقابلته) ما جعل مجلة " Nieman Reports" التي تصدرها جامعة هارفارد تصف هذه القصّة الأخباريّة المطوّلة بأنّها "رائدة لنوع من الأعمال الأدبيّة غير الخياليّة (Non- Fiction)، سمّي لاحقاً بـ"الصحافة الجديدة"، وفقاً للكتاب، الذي ترجمه إيهاب عبد الحميد، وصدر ضمن منشورات منتدى المحرّرين المصريّين بالقاهرة، وحمل عنوان "فرانك سيناترا عنده بَرْد"، مع مقدّمة لمدير ومؤسّس البرنامج المصريّ لتطوير الإعلام، طارق عطيّة.
بلاغة الدرس الذي يقدّمه الكتاب عن الحكاية التي نُشرت في أبريل عام 1966، بالعنوان نفسه (Frank Sinatra Has a Cold) ليس في القصّة الإخباريّة وعدد كلماتها، بل في ابتكار زوايا متعدّدة للسرد الصحفيّ الخلّاق الذي يقدّم، من خلال منمنمات صغيرة وأثيرة، صورة متكاملة عن الحدث الذي أخرج الصحفيّ من دائرة الظل، وجعله شريكاً في مسار الظاهرة "الفرانك سيناترية".
الطريقة، التي سرد فيها تاليز قصّته عن سيناترا تصلح للتحقيقات الاستقصائيّة، ولسرد التقارير الإخباريّة بالطريقة القصصيّة التي تبدع فيها صحيفة "وول ستريت جورنال" التي أصبح لها في عالم الصحافة قالب خاص يُسمّى باسمها، وقد استفدتُ من هذا الثراء التي تقدّمه هذه التجارب خلال عملي ورئاستي لتحرير صحيفة "الغد" التي لم يكن يخلو أي عدد منها من قصّة إخباريّة، فالسرد هو روح الصحافة وحنينها المتعطّش للماء، وسط جفاف الأخبار ورصانتها وجديّتها المفرطة.
"فرانك سيناترا عنده بَرْد"، لكنّه بعد أن يتعافى، كما يخبرنا جاي تاليز، يمضي في الغناء: "الحياة شيء جميل، طالما أمسِك بالوتر"، كما نرى في موضع آخر نساءً جميلات يبتسمن لسيناترا، فيما يحرّكن أجسادهن برقّة على نغمات موسيقاه:
"هل يكون ذلك هو حبّ القمر؟
لا شيء سوى حبّ القمر
هل سترحلين عندما يأتي الفجر
متلصّصاً في عتمة الليل..؟"
ومثلما يبدأ قصّته الأخباريّة بالوصف التشويقيّ، يختمها تاليز بشكل فاتن وخاطف عن تبادل نظرات بين فتاة في العشرينيّات تمرّ من أمام سيارة سيناترا "الجيا" الواقفة عند الإشارة الضوئيّة الخضراء، وهي تفكّر هل يكون هو، فيبتسم وتبتسم، ويمضيان كلّ في طريقه.