لكل ثمر وجنين موسم قطاف وعمر زمني محدد بمولده للحياة، وطفولة وشباب ونضج وكهولة وشيخوخة وعجز وتراجع ، وربما ارذل العمر ثم الموت . وهذا ينطبق على كل المخلوقات والكائنات الحية، فالاشجار والحيوانات وكل ما تدب به حياة تبدأ دورة الحياة فيها من مرحلة الاجنة ثم مرحلة التبرعم والنمو وتشكل الحياة في الزهور وعقدها ثم نضجها وتأتي أكلها ثم تساقطها او قطافها.
وقد بلغت أنا موسم قطاف العمر وهو الستين وما بعده، فكثر ما أسمع أو أقرأ في كل حين، خبر وفاة صديق او زميل دراسة او عمل، مما يجعلني أنتظر ان تقطف حبة عمري في كل لحظة، كما تتعرض حبات الزيتون للقطف في موسم قطافها من كل عام في شهر تشرين أول وتشرين ثاني وكانون اول ، وهذا يقابله الستون والسبعون والثمانون من العمر ، ولا يعني هذا ان لا تسقط حبة زيتون او غيرها من الثمار قبل موعد القطاف المعهود، فكثيرا ما نمر بقرب شجر الزيتون فنرى حبات ساقطة قبل موعد القطاف تحت امهاتها الاشجار، وقد ذوت ويبست، وطالما جاءت ريح عاصف هوجاء في موسم عقد الزهور والاجنة وقتلت الاف الحبات وهي في طور التشكل او النمو، او جاءت امطار وثلوج واسقطت واماتت حبات وثمار في شهور ما قبل القطاف ، وهذا يقابله في عمر الانسان ان تاتي جائحة مهلكة او مجزرة مبيدة او زلزال مدمر فتأخذ وتهلك ما هب ودب من اعمار الاطفال والشباب والشيوخ، او حادث سير او جلطة قلبية حادة تهبط على شاب في مقتبل العمر فتسقط حبته مبكرا.
ثم كثيرا ما نرى حبات زيتون ما زالت فوق في أعالي الشجر لم تسقطها يد الفلاح ولم تتساقط بفعل عامل آخر وانما بقيت لعدة شهور حتى يمر بها (متقرقر) ممن يتفقدون الاشجار بعد مواسم القطاف فيسقطها في خيشته ووعائه، وربما بقيت حبات أخريات لموسم القطاف في السنة الاتية وقُطِفَت مع الجيل اللاحق من فتيات الموسم الجديد، او ربما تطاول عهدها وعمرها فذوت واسودت ويبست عروقها ثم سقطت لوحدها بعد طول حياة وهرم، وهذا يقابله الكثير ممن تطول اعمارهم لتتجاوز مواسم القطاف من الستين والسبعين والثمانين وتمتد للتسعين وربما المائة، وعندما تضمر اجسامهم وتضعف عضلاتهم وتموت عروقهم ويصبحون لا يقووا على الثبات ، يتساقطون كما حبات الزيتون المنسية او المتروكة بعيدا في اعالي الشجر وينتهي بهم الزمن الى الاندثار في الارض.
تذكرت هذا المشهد وأنا يُنعى إلي كل حين صديق او رفيق او عزيز عرفته في مراحل حياتي من المدرسة او الجامعة او العمل في سلك القوات المسلحة او الوظائف المدنية، فتوقفت لكثرة المنعيين والمفارقين على عجل، وتفكرت بسبب ذلك، ثم ألتفت لنفسي وعمري واذا بي قد وصلت وأترابي لموسم القطاف وتساقط حبات حياتنا من شجرة الحياة.. فما عدت استغرب ذلك بل انتظر واستعد لمرحلة سقوط حبتي بصبر وثبات وايمان.
فالجاهل والغافل من لا يستعد ويتجهز لموسم القطاف ، او قل من يغادر هذه الدنيا (الامتحان) فجأة وورقة الاجابة كلها أخطاء أو لم يكمل الاجابة الصحيحة، فكثيرون منا يقتلون ويضيعون الوقت المحدد للامتحان بأمور تافهة وخارجة عن الأسئلة المقررة، ثم يفاجئون بالموت يقول لهم ضع القلم.
والاصح والاوضح من ذلك اننا في الدنيا نؤدي امتحان عملي ، كلنا يعرف الاجابة فيه من خلال الكتب والسنن التي جاء بها الانبياء والرسل، فقد علمونا الاجابة والرد العملي والسلوك الصحيح القويم لكل معضلة تواجهنا او موقف يفرض علينا او مصيبة نواجهها، في السراء والضراء في الفقر والغنى، في الجوع والشبع، في المسؤولية والتبعية، في الظلم والعدل، في الامن والخوف، في الحرب والسلم.
وفي كل موقع أو دور نمارسه في الابوة والامومة، المدير والموظف،القاضي والمتهم،الزوج والزوجة،المعلم والتلميذ.
انت في امتحان ورقابة في كل ممارساتك وسلوكياتك وقراراتك واحكامك وكلامك ونظراتك، (ونواياك) وهذه الاخيرة الوحيدة التي يحاكم عليها الله بكل دقة وتجرد وعدالة مطلقة وليس على الظاهر كما قضاة الارض وحكامها، ولا يعرفها منا أحد، والتي تترجم عدالة الرب في السماء .
اذن نحن في امتحان عملي ، فكيف تكون ردة فعلك وسلوكك على الموقف الذي توضع فيه ، تكون اجابتك العملية والتي يسجلها عليك من هم اقرب اليك من حبل الوريد، الملكان المرافقان والمراقبان في الامتحان الجالسان على كتفيك، فواحد يسجل اجابتك الصحيحة على الموقف واخر يسجل اجابتك الخاطئة على الموقف فلو كذبت او ظلمت او خنت او غششت او قتلت او سرقت او زنيت او كفرت بالله الواحد الاحد جهرة او سرا ، وبدون ان يراك أحد ، او دبرت مكيدة او جريمة واوقعت بها غيرك فقد وُثِق عليك ذلك وسُجل من قبل المراقب المرافق لك على تلك الاجابة العملية منك.
وبالمقابل لو كانت اجابتك العملية على الموقف صحيحة فعدلت وانصفت وصدقت واستقمت وغضضت بصرك وشكرت للنعمة التي وصلتك من مال او جاه او رزق او ابناء، ولم تبطر لغنى، وتفسق لجاه ،وتظلم لمنصب اتاك ،او تسرق لاموال اشرفت عليها، او تفسد لسلطة تسنمت ذروتها، فقد اجبت اجابة صحيحة وسجلها لك المراقب للامتحان، وهذا يحدث معنا في كل لحظة وثانية وإجاباتنا تنشر في كتب سوف نتسلمها باليمين او باليسار، أما ما يغاير امتحاناتنا العادية ان مدة ونهاية الامتحان هنا غير محددة بزمن ولا عمر، أما الارجح ان تكون جُلها في مواسم تساقط وقطاف العمر التي ذكرت آنفا، في حين أن المفاجيء وغير المتوقع ان تسقط حبة عمرك في اول الامتحان او منتصفه، فلا خوف عليك اذا كنت تجيب اجابة صحيحة حسب المطلوب ، اما الخوف والصدمة اذا كانت اجاباتك كلها او جلها خاطئة، فقد ظلمت نفسك، وتخيل الاظلم الذي يعيش لمواسم ما بعد القطاف ولا يعدل اجاباته، وقد أعطي الوقت الكافي والطويل واستنفذ المدة القانونية والرسمية للامتحان العملي الذي حدده او توقعه الرسول عليه السلام :
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك).
فتقريبا مدة الامتحان شبه معروفة لنا، ولكن ما يخشى على غير المحضرين والمستعدين للامتحان او المستهترين ان تقطف حباتهم فجأة وتتساقط قبل ان يراجعوا الاسئلة ويعدلوا الاجابات غير الصحيحة، كرد الحقوق لاصحابها، وطلب المسامحة من اصحاب الحقوق، والرجوع عن الظلم ، وطلب الغفران من الله ، وابراء اعراض الناس، وصلاح النفس ، ونقاء الروح، ونظافة اليد والفرج واللسان،والتولي يوم الزحف، وما اشبه من الموبقات السبع المهلكة. فلذلك قال الله:
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران133).
لان الله يعرف ان كثيرا منا سوف يتساقطون قبل موعد القطاف وهم في منتصف او اول الامتحان.
هذا بيان وموعظة لي قبل الناس احببت ان اذكركم ونفسي المخطئة فهل من مدكر ؟ والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين.