باستثناء فهد بلان لا اعرف من تجرأ على مخالفة الطبيب واوامره وتعليماته فبايدي الاطباء بعد الله مفاتيح الحياة.. حتى المطرب اللبناني صاحب الصوت الجبلي القوي فهد بلان كان مؤدبا في طلبه من الطبيب الذي جس نبضه ان يترك يده فقال "اترك يدي يا سيدي اترك يدي" ليدعوه الى ان ينظر الى كبده قائلا "ان التألم في كبدي.. فاترك يدي يا سيدي.. اترك يدي"
الاطباء في بلادنا يملكون سلطة علمية لا لكونهم من فئة الاذكياء والشطار الذين استوعبوا اكثر من ٩٠% من المقررات الدراسية والتحقوا بمهنة تحظى بتقدير المجتمع وتعنى بحياة الادميين بل لانهم يعرفون ما لا يعرفه غالبية الناس ودرسوا اسباب الصحة والاعتلال ويدركون الفرق بين الموت والحياة ويحدثون الفرق في اللحظات التي يلامس فيها بعضنا عتبات القنوط.
كلنا يخاف الموت ونعتقد ان الاطباء في حياتنا يمتلكون القدرة على توجيهنا ومساعدتنا لتجنب الوقوع فريسة لهذا الكابوس الذي يكشف عن انيابه كلما اضطرب التوازن في وظائف الاعضاء وتغيرت المؤشرات الحيوية عن معدلاتها الطبيعية..
في حضرة الاطباء طمأنينة اكثر وفي غيابهم خوف وقلق واحكامهم قطعية لا جدل فيها.. البعض منا يحب ان يصادق الاطباء ولا يطمئن الا لحضورهم..
منذ ايام اصطحبت احد اقاربي الاعزاء الى عيادة طبيب بارع ليطمئن قريبي ويفسر له سبب شكواه المتكررة من صعوبة البلع ومن السعلة التي تعاوده من وقت لاخر.. استقبلنا الطبيب ورحب بنا بدفئه المعهود واستمع الى الشكوى واستدعى أخصائي اخر ليشاركه القراءة والفحص والتشخيص واستخلصا ان الامر سهل ولا يوجب كل هذا القلق..
عدنا الى منزل قريبي وهو مرتاح بالرغم من انه لم يحصل الا على شرح وتفسير عن الحالة واسبابها وارشادات حول التعامل مع أعراضها للحد من ظهورها وتأثيرها..
هذا الموقف ذكرني بحجم الراحة التي كنا نشعر به ايام تدريبنا كتلاميذ في كلية الشرطة عندما نراجع العيادات الطبية ونتحصل على إعفاء من الطوابير ورخصة للتحلل من الواجبات والضغوط التي كنا نتعرض لها طوال مراحل التدريب..
أقصى ما نتمناه ويمكن الحصول عليه من مراجعاتنا للأطباء كانت الجملة التي يدونها الطبيب بخط يده المقروء بصعوبة "راحة لمدة اسبوع ويراجع".
نعم معظم من يراجعون الاطباء من عسكريين ومدنيين يشعرون بالراحة عند رؤيتهم لهذا القرار المكتوب بمنحهم اجازة لمدة اسبوع.. في تلك الأيام كان لهذه الجملة مدلولات كثيرة اهمها ان شكوانا حقيقية وليست تمارض والثانية ان لدينا العذر ان لا نصحو مع رفاقنا لاداء الرياضة الصباحية وبامكاننا ان نستمر في النوم دون ان يجروء احد على ايقاظنا..
البعض يمكن ان يغادر مركز التدريب ويقضي الاستراحة في بيته الامر الذي يمنحه الوقت الكافي للقيام بالزيارات والاعمال البيتية والزراعية وصيانة كل ما يحتاج لصيانة.
السلطة التقديرية التي يملكها الأطباء في تقرير المدد اللازمة للشفاء او الاستجابة لنبوءة المراجع أمر في غاية الغرابة ويجري بشكل اعتيادي يقبله المريض والمتمارض والطبيب والقائد على حد سواء.
لا زلت جاهلا بأسباب اصرار الأطباء على كتابة تقاريرهم بخط رديء وينثرون الأحرف بعشوائية على المساحة الورقية المتاحة. المساحات التي يتركها الطبيب بين حرف الP وبقية أحرف الكلمة تكفي لكتابة كلمتين او اكثر.
الخط الرديء وغير المنتظم اصبح لازمة للتعريف بأن الكاتب طبيب ويزداد الخط سوءا كلما ارتفعت درجة الاختصاص ومكانة الطبيب بين رفاقه..
لا اعرف اذا كان لطلاسم السحرة علاقة بكتابة الأطباء ويصعب على الباحث ان يفصل في مسألة التداخل بين احساس الطبيب انه يعرف شيئا لا يعرف العامة ويعبر عنه بكتابة غير مفهومة الا للصيادلة وزملائه من ابناء المهنة.
الروشيتة او الوصفة تحتاج إلى تدقيق لان الأسماء للأدوية كتبت بخط شوه الأحرف فلم يعد رسمها يشبه رسم الأحرف المطبوعة على قوارير وزجاجات وعلب الأدوية المصفوفة على رفوف الصيدليات.
في عالم السحر الذي يشعل شهية الراغبين في السيطرة والعبث والتمكن وينشغلون بمحالفة القوى الخفية من اجل ضبط الحسد ولجم الشرور او توجيه الشر نحو الاضداد والخصوم يمعن السحرة في صياغة تعاويذهم فتجدهم يتمتمون كلاما لا نفهمه ويعدون أوراقا يخطون عليها طلاسم فيطوونها بطرق تلتزم بشروطهم المخبرية.
ولتعميق احساسنا بغموض عالمهم يحرص هؤلاء على اظهار مباراتهم في الوصول الى العالم الماورائي مستعيننون بقراءات وابخرة وتمائم واوراق ووصفات تحمل أثرا من المستهدفين.
اليوم وبعد ان تقدمت تكنولوجيا التشخيص الطبي واصبحنا نتحكم باحرفنا ونرصها على لوحة مفاتيح اجهزتنا الحاسوبية لنستقبلها على هواتفنا المحمولة لا زال لدينا حنين وشوق الى تلك الايام التي كنا نكسر رتابتها بالنظر الى خربشات الاطباء المبعثرة على كامل مساحة التقرير المؤلف من بضع كلمات والتي لا نعرف ان نفك من طلاسمها الا الجملة التي تستقر في ذيل التقرير لتقول اسبوع ويراجع..