أيهما أولى بالإدانة والتأنيب، الذين يشهرون إساءاتهم لبلدنا، ويجرحون رموزه، ويغردون خارج السرب الوطني، ويتقمصون قضايا الكون ثم يهربون من قضايانا، ويسخرون من إنجازاتنا وتضحياتنا، أم الذين تستفزهم هذه المواقف والخطابات والاساءات فيتحركون للدفاع عن دولتهم، والانتصار لتاريخهم، والاعتزاز بمواقفهم، والالتصاق بأرضهم وهويتهم؟
وفق أي منطق سليم تبدو الإجابة معروفة؛ لا أحد يقبل، في أي دولة بالعالم، أن يصمت عن إساءة تمس بلده، الكرامة الشخصية جزء لا يتجزأ عن الكرامة الوطنية، الأسوأ حين تصدر الإساءة من داخل الدائرة الوطنية، وتستند إلى حسابات سياسية انتهازية، أو حين تصبح جزءا من سرديات تاريخية تتعمق أكثر بين الأجيال، فتشكل وعيهم، وتحدد حركتهم، عندئذ يبدو استهجان الرد عليها، أو اتهام أصحابه بالشوفينية والتعصب، أو بزعزعة الوحدة الوطنية، سلوكا غير مفهوم إلا في إطار الانتهازية السياسية، أو الاستهانة بالذات الوطنية، أو العجز عن فعل الواجب، والاستسلام للأمر الواقع.
في بلدنا تبدو الصورة، للأسف، مقلوبة، أنت متهم بالدفاع عن الأردن، وتحتاج دائما إلى تبرير مواقفك، ومحاولة إقناع الآخرين -حتى من أبناء جلدتك- أنك تقوم بأقل الواجب، ولا تقصد أبدا الانعزال عن محيطك العربي ودائرتك الإنسانية والحضارية، ولا التنازل عن مواقفك في دعم قضايا أمتك وأشقائك، ولا التشكيك بمن يعيش معك داخل إطار الوطن الواحد، مهما كان جنسهم أو دينهم أو عرقهم، حين تقول لهم : لا أدافع عن حكومات ولا سياسات ولا قرارات رسمية، وإنما عن دولة ومؤسسات، تاريخ وهوية، مواقف وإنجازات، يأتيك الرد سريعا : أنت «سحّيج»، أو باحث عن امتيازات، أو كاتب مأجور.
فرق كبير بين حرية الرأي والتعبير، وبين أيدولوجيا التجريح والإساءة، أسوأ ما حصل في بلدنا هو استقواء هذه الايديولوجيا التي تحاول أن تفرض وصايتها علينا، ولا تحترم إلا ما تؤمن به، وما تبايعَ أصحابُها عليه، فرق كبير، أيضا، بين أن يكون لك قضية مشروعة، تدافع عنها وتستقطب كل الناس للاصطفاف معك من أجلها، وبين أن توظف هذه القضية لحساباتك الشخصية، أو تستخدمها للإساءة للآخرين الذين يتقاسمون معك العيش والهم، فرق كبير، ثالثا، بين أن تعتقد أن الأردن هو قضيتك الأولى، ، فتعتز بهويته وبالانتماء إليه، وتحترم مواقفه، وتقدر خياراته واضطراراته، وبين أن تراه مجرد دار للإقامة، أو أولوية ثانية، أو محطة قطار، أو ساحة استنفار لجبهات أخرى.
لابد أن ندرك، نحن الأردنيين، ثم أن نتوافق، على أن هذا البلد بلدنا جميعا، وأن هذه الدولة هي منجزنا كلنا بلا استثناء، الأردنيون ملّة وطنية واحدة، تجمعهم هوية وطنية (نقطة)، لديهم تاريخ ممتد في الزمان والمكان، وهم جزء من أمة عظيمة، قضاياها قضاياهم، ومستقبلهم مرتبط بمصيرها، لكن من حقهم أن يكون الأردن أولا في حساباتهم، وأن تكون الدولة الأردنية مصدراً لاعتزازهم، كما أن من حقهم أن يقولوا : كفى، لكل الذين ينظرون إليهم من ثقب باب مصالحهم، وربما أحقادهم وجحودهم، من حقهم أن يشهروا عتبهم وغضبهم على كل من خذلهم أو أساء إليهم.
ما أجمل الأردنيين، وما أوسع صدورهم، «فلهم نفس تعاف (الغدر) حتى كأنه / هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر..».
الدستور