السلوك الانتخابي والناخب العقلاني أو الاستراتيجي
الدكتور موسى الرحامنة
14-07-2024 11:48 AM
يعتبر حق الانتخاب في الدول الديمقراطية من أهم الحقوق السياسية على الاطلاق؛ لأن الانتخاب هو المُعبِّر الحقيقي عن شرعية النظام السياسي لأي دولة؛ ولكن الحديث عن حق الانتخاب في اطاره الدستوري كحق منصوص عليه مسألة ليست ذات إشكال؛ فقد شهدنا اتنخابات كثيرة أفرزت مجالس نيابية ومجالس بلدية ومؤخراً مجالس محافظات؛ فهل حدث تغيير يُذكر على كافة صعد الحياة؛ فلم يلمس المواطن أي أثر ايجابي يُحسّن من ظروفه المعيشية والتنموية.
ولما كان الصوت الانتخابي الواعي هو الرافعة الحقيقية لافراز منتجات على قدر المسؤولية والتحدي فإن هذه المقالة تلقي الضوء على السلوك الانتخابي ودور الناخب المعوّل عليه وكيف يسهم في صناعة المستقبل؛ وكيف يُحسن الاختيار في ظل تعدد الخيارات وما هي تفضيلاته في ضوء المعطيات التي يأمل وينشد.
وترتبط مصداقية اي عملية انتخابية بمجموعة من الشروط والمتطلبات الموضوعية حتى تضفي عليها الطابع الديمقراطي؛ وقد ذهب روبرت دال الى ان حرية الانتخاب ونزاهته هو من اهم الشروط اللازمة لاستكمال الشكل الديمقراطي ومن متطلباته الرئيسة؛ وضرورة ان يسبق اجراء الانتخاب مجموعة من الحريات والحقوق الديمقراطية؛ فلا بد من حرية الحصول على المعلومات من مصادر متعددة؛ وحرية التعبير؛ وحرية التنظيم وتشكيل مؤسسات مستقلة؛ واجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ولقد كان اسلوب الانتخاب المفضل سابقاً هو الاقتراع العلني لأنه على حد تعبير روبسبير ينمي شجاعة المواطن ويذكي فيه الحس المدني ويتيح للمواطن الصالح أن يراقب الانتهازيين؛ ولكن التطورات التي شهدتها المجتمعات كشفت عن عجز هذا الاسلوب لا سيما في ظل بطش السلطة الحاكمة وارباب النفوذ بالمعارضين والانتقام منهم؛ وقد أدى ذلك الى تفضيل اسلوب الاقتراع السري الذي يبعد المواطن عن كل اشكال الضغط.
اليوم؛ بات ما يُسمى بعلم الاجتماع الانتخابي وهو احد فروع علم الاجتماع؛ علماً قائماً بذاته يهتم بدراسة سلوك الناخب والعوامل التي تؤثر على ارادته وخياراته بالاضافة الى تشخيص العلاقة بين النظام السياسي والنظام الانتخابي ومدى ضمان هذا النظام الانتخابي للطابع الديمقراطي للنظام السياسي؛ لأن النظام الانتخابي هو احد اهم عناصر النظام السياسي.
ويعرف السلوك الانتخابي بانه مجموعة القرارات والافعال التي يقوم بها الناخبون اثناء العمليات الانتخابية بما في ذلك كيفية التفكير في المرشحين وكيفية التصويت والعوامل التي تؤثر على اختياراتهم مثل الايديولوجيا والاقتصاد والمسائل الاجتماعية والثقافة الشخصية والتاريخية.
وفي سياق صناعة الوعي الانتخابي؛ لا بد من الاجابة على سؤال لماذا ينتخب المواطن؟ وما هي الدوافع التي تدفعه للتصويت؟ وكيف يدلي بصوته ولصالح من؟ وما هي العوامل التي تسهم في تحديد فعالية الانتخاب؟ ولعل النظام السياسي والاجتماعي له نصيب وافر في صياغة وصناعة هذا الوعي وظروف البيئة السائدة ووجود الاحزاب السياسية المنظمة والمنهجية ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة؛ اضف الى ذلك ظروف وقانون الانتخاب ومستوى الوعي المتوفر لدى المواطن؛كل ذلك من شأنه أن يكشف عن مدى الحافز والرغبة لدى المواطن للمشاركة السياسية في اختيار ممثليه.
فالشرعية التي تحظى بها المجالس النيابية لا تكون الا من خلال الانتخاب عبر صناديق الاقتراع؛ وحتى تكتسب هذه الشرعية مصداقية؛ لا بد ان تكون وسيلة الاختيار نزيهة تعبر عن ارادة حرة وعن وعي عقلاني بحيث يكون الاختيار مبنياً على أسس سليمة وان تكون خيارات وتفضيلات الناخب غير خاضعة لاعتبارات وقيود وضغوط او أي مؤثرات من أي جهة كانت؛ بل لا بد أن تكون عملية الاختيار مستقلة وغير خاضعة للمساومة والهيمنة؛ لأن الانتخاب بحد ذاته هو شعور المواطن بانتمائه لأمة واحدة؛ وفرصة للتنشئة السياسية والمدنية؛ وهذا ما عبّر عنه ستيورات ميل بأن " التصويت هو وسيلة لزراعة الروح العامة والذكاء السياسي".
ومن الناحية العقلانية؛ فإن السلوك الانتخابي يدل على سعي الافراد لتحقيق مجموعة من المصالح الفردية والجماعية او المصلحة العامة؛ ومن هنا؛ يجري فهم هذا السلوك على اعتبارات خضوعه لسلسلة منطقية من حسابات الربح والخسارة؛ من اجل تحقيق اكبر قدر ممكن من المنافع وتجنب الخسارة؛ وبالتالي فليس مستغرباً ان يكون السلوك الانتخابي لدى الناخب عرضة للتغير والتقلب بسبب تغير الولاء والانتماء.
وقد أُخضع السلوك الانتخابي لانماط ونماذج من التفسير منها النمط السوسيولوجي الذي يركز على السمات الاجتماعية للناخبين والتي تقرر هيكيلية التمثيل والائتلاف الاجتماعي من خلال مقارنة بيانية بين توزيع الاصوات والمؤشرات الاقتصادية او من خلال استطلاع عينات تمثل ناخبين تتمايز مواصفاتهم الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ وثاني هذه الانماط هو النموذج النفسي السياسي الذي يقدم تفسيراً للسلوك الانتخابي على اساس الهوية الحزبية من خلال ارتباط الناخبين منذ طفولتهم باحد الاحزاب الكبرى وبالتالي تلعب الهوية الحزبية دوراً في قراءة وفهم المعلومات السياسية التي تسهم في صياغة دور الناخبين في الحكم على المرشحين والرهانات والقضايا؛ وبالتالي يصبح الانتخاب فعل سياسي مدفوع بتصورات الناخبين مع التركيز على استكشاف مواقف الناخبين تجاه الاحزاب والمرشحين والبرامج؛ اما النموذج الثالث فهو النموذج الاستراتيجي والذي يرى ان اللاعب الرئيسي في مركز الخيارات الانتخابية هو المنظور النفعي الذي يفترض ان سلوك الناخب العقلاني يرتبط بمسألة التكاليف والفوائد والمنافع التي يتمخض عنها خياره الانتخابي وبالتالي يتم الحكم على المترشحين بالنظر الى ادائهم الفائت والمتوقع ثم يبدأ الناخب بوضع تقييماته.
وفي اطار الحديث عن اشكالية الناخب العقلاني؛ يفرض الجانب الاقتصادي نفسه بقوة في تحليل السلوك الانتخابي من منظور استراتيجي؛ وذلك حين يُنظر الى الساحة الانتخابية بأنها سوق يحكمه قواعد العرض والطلب؛ يشكل الطرف الاول فيه مجتمع الناخبين بما لديهم من تطلعات وتوقعات وبذلك يشكل هؤلاء الناخبين الطرف المسمى بالطلب؛ فيما يسمى الطرف الثاني بالعرض والمتمثل بوعود المرشحين المتفاوتة في جاذبيتها ومصداقيتها؛ ووفقاً لهذا المنظور يستطيع الناخب العقلاني ان يحدد الخيارات الافضل لمصالحه من خلال الحصول على اكبر قدر من المنافع وتجنب القدر المستطاع من الخسائر وتفويت المنافع.
لقد جاءت ولادة مفهوم الناخب العقلاني او الناخب الاستراتيجي عقب التحليلات التي أجراها انتوني داونز؛ ففي الحملات الانتخابية للمرشحين افراداً وأحزاباً تتصاعد وتيرة التنافس بين المرشحين في تقديم الوعود والبرامج والاغراءات كتخفيف العبء الضريبي واصلاح المنظومة الصحية والتربوية واصلاح التشريعات وغير ذلك؛ فيما يسعى الناخبون الى تعظيم فوائدهم الى الحد الاقصى؛ فالناخب العقلاني يحاول الحصول مقابل صوته على افضل تأثير على الشروط المحسّنة لاوضاعه المتعددة؛ ومن المفترض أن يكون عارفاً بمصالحه وقادراً على تحديد خياراته؛ ولذلك لا بد من حصوله على المعلومات الكافية والمفيدة عن تاريخ المرشحين وانجازاتهم وسماتهم الشخصية والقيادية ومدى مصداقية الوعود والشعارات التي يطرحونها في برامجهم الانتخابية.
وطالما كان السلوك الانتخابي وفق المدخل الاستراتيجي قائما على شرط العرض السياسي الذي يشتمل على بدائل تتحكم في الاختيار العقلاني للناخب؛ لأن هذا العرض يكشف عن قوة أو ضعف الحملات الانتخابية واعداد المترشحين والصراعات والتجاذبات والتحالفات والإئتلافات المعلنة؛ وفي ظل هذه المعطيات فإن مصلحة الناخب العقلاني تتمثل في تفضيل المرشح الذي تكون آفاق نجاحه أفضل.