لماذا تطول الحرب على غزة حتى الآن؟
د. جواد العناني
11-07-2024 09:41 AM
مضى على حرب غزة تسعة أشهر حتى صباح يوم الأحد الماضي، السابع من شهر يوليو/ تموز 2024، وهذه فترة طويلة ذهب فيها ما يقارب 40 ألف شهيد في غزة وحوالي 90 ألف جريح، ومفقودون آخرون لا يعرف عددهم أحد على وجه الدقة. أما الجانب الإسرائيلي فقد خسر على الأقل 2300 قتيل، و15 ألف جريح. هذا عدا عن التهجير والتدمير الذي لحق بغزة، ومخيمات من الضفة الغربية، وفي لبنان وسورية والعراق شهداء لم أتمكن من أن أحصيهم، ولحق بمدن ومستوطنات ومستعمرات إسرائيلية أذى كبير.
كل هذا القتل الذي تكبده المدنيون، خاصة من الأطفال والنساء، وكل التدمير والتهجير ظهر النظام العالمي فيها بأبعاده الأمنية والدبلوماسية والسياسية والإنسانية مهيض الجناح، ساقط الأسنان. وكذلك ظهر ضعف العمل العربي الفردي ومنظماته إلى حد لم يعد أحد يستطيع أن يدافع عنه، أو حتى يرجو خيراً في إصلاحه.
ونحن نذكر أن هذه هي الحرب السادسة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ العام 2006، ولكن هذه الأخيرة هي الأطول أمداً، والأكثر دموية، والأفتك سلاحاً، والأظلم نتيجة. والسؤال الذي يطرح هو: لماذا طالت هذه الحرب؟
بداية زودني صديق عزيز بدراسة عنوانها " تحليل أسباب إطالة أمد أزمة غزة وفق نموذج بريشر"، وبعدما قرأتها بحثت عن كتب هذا العالم السياسي مايكل بريشر Michael Brecher فوجدت أنه عمل أستاذاً بجامعة ماكجيل MacGill بكندا، وأنه أصدر بالشراكة مع باحثين آخرين كتابين مهمين جداً في هذا الإطار: الأول والأهم هو كتاب موسوم بـ"دراسة الأزمة" أو A Study of Crisis الصادر عام 2000 بالاشتراك مع أستاذ علوم سياسية آخر مهتم بالأزمات والنزاعات من جامعة ميريلاند Maryland الأميركية.
أما الكتاب الآخر فيشتمل على مجموعة مقالات قام بتحريرها بريشر مع فرانك هارفي Frank Harvey من جامعة دالهوسي Dalhousie من مقاطعة هاليفاكس بكندا. وعنوان هذا الكتاب هو "النزاع والأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد السياسي العالمي" أو Conflict Security, Foreign and International Political Economy: Past Paths and Future Directions in International Studies".
فقد استغرق الكتاب الأول الذي صدر عام 2000 حوالي 20 سنة من الدراسات لنزاعات محددة، ولتحليل الأرقام والإحصاءات عن انفجار تلك الأزمات إلى نزاعات وحروب. ويشير الكاتبان فيه إلى أن الدراسة قد غطت حوالي 400 أزمة و31 حرباً مستمرة وحوالي 900 جهة رسمية شاركت في هذه الأزمات والصراعات. وقد غطى المؤلفان في الكتاب (كما يقول مقال يروج للكتاب) الجوانب الهامة التالية: الأبعاد الأمنية للأزمات، وأثر اختلاف الأنظمة السياسية على تفجير الأزمات حيث يكون أحد الأطراف ديكتاتوري النظام، والآخر ديمقراطياً، ودور العنف وحدَّتِه في إطالة أمد الحروب.
وقد طور الكاتبان (بريشر وديكلنفيلد) نموذجاً سمياه النموذج الموحد للأزمات أو The Unified Model of a Crisis حيث قاما بدراسة أزمات معينة كأمثلة، ودرسا تأثير بعض المتغيرات على حالات خاصة، ومن هذه المؤثرات أو المتغيرات سلوك صناع القرار وردة فعلهم على الأزمة وتطوراتها، ومدى تأثير الصراع على القيم التي تتمسك بها أطراف النزاع، والخوف من أن الصراع سوف يحيط بأطرافه إذا طال أمده.
أما الدراسة العربية التي وصلت إلي من الصديق، والتي أشرت إليها، فقد قام واضعوها (لم ترد أسماؤهم في الدراسة) بتطبيق نموذج بريشر على حالة الحرب على غزة، واستنبطوا ستة مؤشرات تدل على أن هذه الحروب كانت مرشحة منذ البداية لأن تطول، أو أن بعض العوامل الأخرى قد أثرت على مدتها مثل ردود فعل القيادة الإسرائيلية وتقلب مواقفها حيال الحرب، أو موقف قادة المقاومة الفلسطينية. وكذلك بسبب ما قد تنطوي عليه هذه الحرب من آثار على المواقف القيمية (الثابتة إن صح التعبير) حيال القضايا غير المتفق عليها بينهم.
يقول كاتبو الدراسة العربية المطبِّقة لنموذج بريشر إن أحد أسباب إطالة الحرب الحالية هو الأذى الكبير الذي تسببت فيه هذه الحرب، خاصة في يومها الأول لسمعة إسرائيل بأنها رابع قوة عسكرية في العالم، وأن قدراتها التجسسية والاستخباراتية لا يشق لها غبار، وأن مركزها العالمي الذي أساءت فيه إلى سمعة الفلسطينيين والعرب والمسلمين قد بقي فوق الشبهات. كل هذه الأصنام المعبر عنها بألفاظ رنانة مثل "إسرائيل أكثر الدول تقدماً في الحماية الإلكترونية والسيبرانية" أو ألفاظ مثل "اللاسامية" أو أن الجيش الإسرائيلي لا يهزم، أو أن استشاراتها ومعداتها هي الفضلى قد انكشفت أمام العالم ولم يتعدّ ذلك السحر الخادع كونه مجرد سراب في صحراء التيه والعطش. ولما انكشفت إسرائيل صارت لديها الرغبة في استمرار الحرب لتستعيد تلك السمعة بالإمعان في العنف والقتل، مما كشفها دولة مارقة وقادتها ليسوا إلا مجرمي حرب.
أما المؤشر الثاني فهو يمت إلى الأهمية الجيوسياسية لقطاع غزة. فعلى الرغم من صغر مساحتها (360 كيلومتراً)، وكثافة السكان فيها (حوالي ستة آلاف نسمة لكل كيلومتر مربع) إلا أنها تقع بالقرب من مفرق القارتين آسيا وأفريقيا، وهددت أمن إسرائيل وكبدتها خسائر فادحة في حروبها معها. وبحسب الادعاءات الإسرائيلية فإن غزة قاعدة إيرانية متقدمة على حدود إسرائيل. ولذلك صار هدف تغيير ملامحها أو إعادة تموضع غزة السياسي، والاستيلاء على ما يشاع من وفرة الموارد الاحفورية فيها (نفط سائل وغاز) مطمعاً لإسرائيل التي انسحبت منها العام 2005.
أما المؤشر الثالث فهو أن شدة العنف وحجم القتل والتدمير وضع المقاومة في مزاج يسمح بالحرب أن تطول طالما أن إسرائيل لا تحترم القوانين الإنسانية الناظمة للحروب، وبالمقابل انطبق هذا الأمر على إسرائيل. أما المؤشر الرابع فهو أن الأطراف المؤثرة على استمرار الحرب في غزة كانت متفرقة الأهواء. فحسابات اليوم الثاني ونصيبه من أنفال هذه الحرب قد تفاوتت تقديراتها وسبلها لدى الدول العظمى والدول الإقليمية، ولذلك تبعثرت طاقة هؤلاء المبذولة من أجل لملمة الأمور.
أما السبب الخامس لإطالة أمد الأزمة فيتعلق بحسابات الأطراف المشتركة في الحرب وتفاوت مصالح المسؤولين عنها. وهذا واضح في الخلافات بين الأطراف الإسرائيلية الداخلة في الحكومة أو التي دخلت في اللجنة الوزارية لإدارة الحرب والتي اشتركت فيها أطراف تنافس نتنياهو وتريد أخذ مكانه.
أما الأمر السادس فهو تمسك كل طرف بأن يخرج ومعه دليل على أنه انتصر في الحرب، فالطرف الفلسطيني والعربي يرفض التهجير لخارج غزة أو الضفة. ويرفض انتهاء الحرب بوجود قوات إسرائيلية على أرض غزة، أو تحويل غزة إلى منطقة "ب" بدلاً من "ج" أو اعلان وقف اطلاق النار وتبادل الأسرى بدون أفق سياسي.
وفي تقديري أن الأمور بعد وقف إطلاق النار سوف تأخذ مسارين هامين: الأول هو ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن عن ضرورة الوصول إلى حل سياسي في المنطقة ترضى به الأطراف، والثاني هو تبني خطة تنموية على غرار خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية في 1945.
العربي الجديد