رؤية تحديث القطاع العام والاصلاحات الهيكلية في قطاع المياه
المهندس إياد الدحيات
11-07-2024 09:36 AM
لقد وضعت رؤية التحديث الاقتصادي التي تمّ إطلاقها برعاية ملكية سامية عام 2022 إطاراً عاماً لإدارة المياه في المملكة يوجّه نحو تعزيز الأمن المائي، بإعتباره الركيزة الأساسية لإفساح المجال للنمو الاقتصادي والنهوض بحياة المواطنين. ويتمّ ذلك بتنفيذ مجموعة مبادرات أهمها إدارة العرض والطلب على إمدادات المياه، وتشجيع الممارسات المستدامة لاستخدام المياه والقدرة على التكيّف المناخي، وإطلاق مشاريع تحلية مياه البحر، وتقليل نسبة الفاقد من المياه، وتخفيض العجز المالي في قطاع المياه.
ولخلق البيئة الممكّنة اللازمة لتنفيذ هذه المبادرات على الوجه الأكمل، لا بدّ من السير قدماً خلال الفترة القادمة في إجراء إصلاحات هيكلية شاملة في قطاع المياه لبناء نموذج حوكمة مؤسسي حديث ومستدام يتوافق مع الأهداف الاستراتيجية لرؤية تحديث القطاع العام. ويتضمن ذلك تنسيق وإدارة مشاريع التطوير المؤسسي المتعددة والمموّلة من الجهات الداعمة، بحيث يتم توجيهها بشكل تكاملي وموضوعي يتوافق مع الإصلاحات الهيكلية المنشودة وأجندة وأولويات قطاع المياه، وليتم متابعتها بشكل برامجي ونشر تقارير إنجازها بشكل دوري.
إبتداءً يجب توحيد مصادر التشريع والأحكام القانونية المتعددة التي تنظّم عمل قطاع المياه وتداخلاته مع القطاعات الأخرى في قانون واحد شامل بحجم تحدّي المياه، لينظّم استخدامات المياه للأﻏﺭﺍﺽ الزراعية وﺍﻟﻤﻨﺯﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼـﻨﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴـﻴاحية، واستمرار التخطيط طويل الأمد للموازنة المائية السنوية التي لا تتأثر بتعاقب الإدارات على قطاع المياه، وضرورة اشتمالها لعدة سيناريوهات ونماذج تحاكي كميات المياه المتوفرة وظروف التشغيل المتغيّرة. وسيساعد هذا التخطيط المستقر والمستدام بدوره المركزي في تحقيق استقرار عملية التزويد المائي وإدارة العرض والطلب للسنوات اللاحقة، وضمان استمرار تنفيذ المشاريع الرأسمالية بكفاءة وفعالية. كذلك سيتم من خلال هذا القانون إعادة تنظيم عمل ومهام ومسؤوليات مؤسسات قطاع المياه وتطوير وترشيق حجمها الإداري (وزارة المياه والري وسلطة المياه وسلطة وادي الأردن وغيرها)، معتمداً على مفاهيم الإدارة المتكاملة في إدارة مصادر المياه، وتعميق لامركزية تقديم خدمات المياه والصرف الصحي، وتطبيق آليات المحاسبة والمسآلة عند تقييم الخدمات المقدّمة للمستهلكين، وإشراك أصحاب المصلحة وكافة الشركاء من القطاع الخاص في عملية صنع وإتخاذ القرارات، وبناء الشراكات الاستراتيجية لجلب الخبرات العالمية والاستثمارات المالية لتعزيز إدارة مرافق المياه وتمويل وتنفيذ المشاريع الكبرى.
ومن الضروري تعزيز مهام ودور وزارة المياه والري لتصبح مسؤولة بشكل كامل عن كافة مصادر وموارد المائية وتطويرها وإدارتها، تشمل ملكية وإدارة مصادر المياه الجوفية والسطحية وإجراء الدراسات الفنية حول استغلال المياه في الطبقات المائية للأحواض الجوفية داخل حدود المملكة أو تلك المشتركة مع دول الجوار، والأحواض السطحية التي تجري فيها المياه والتي يتم تجميعها في سدود خرسانية أو ترابية، ومراقبة استغلال المياه من آبار المياه العاملة المرخصة في الأحواض المائية، وإصدار رخص الحفر واستخراج المياه السنوية والحد من إنتشار الآبار الغير مرخصة وإحكام سيطرة القانون عليها، وإدارة وتشغيل السدود وأنظمة المياه الناقلة للمياه الإقليمية المشتركة، على أن يتم أتمتة مصادر المياه كافة بنظام إلكتروني متكامل يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المراقبة والتحليل لتعزيز آلية إتخاذ القرار.
وبموازاة ذلك، تبرز الحاجة لتعديل و تطوير دور سلطة المياه (وهي المؤسسة الأكبر في قطاع المياه)، بحيث يتم إعداد نموذج اقتصادي مالي لدراسة تحويلها لشركة مياه قابضة وطنية تمتلك أسهم شركات توزيع المياه الثلاث (مياهنا، اليرموك والعقبة) وكافة الأصول والمنشآت من محطات مياه وصرف صحي وشبكات وبنى تحتية وفوقية والتي تبلغ قيمتها حسب البيانات المالية المدققة ما يزيد عن 3 مليار دينار. ويكون من مهامها الرئيسية إعداد قاعدة بيانات لهذه الأصول وتحضير خطة المشاريع الاستثمارية والتواصل المستمر مع العديد من المؤسسات الدولية والجهات المانحة لإتاحة التمويل اللازم لتمويل المشاريع الواردة فيها، ووضع الضوابط لتعظيم الاستفادة من هذا التمويل، ومتابعة تنفيذ مشاريع المياه والصرف الصحي في كافة مناطق المملكة. كذلك ستعمل هذه الشركة القابضة على جذب الاستثمارات وإشراك القطاع الخاص على ثلاث مستويات في قطاع مياه الشرب؛ المستوى الأول: الذي يعمل فيه القطاع الخاص في تمويل وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية الخاصة بتوليد وإنتاج المياه وتحمّل كافة المخاطر الفنية والتمويلية والتشغيلية لذلك ومنها على سبيل المثال مشاريع تحلية مياه البحر المستقبلية (بعد الإنتهاء من تنفيذ عطاء مشروع الناقل الوطني للمياه) واستكشاف واستخراج الآبار العميقة في المملكة ضمن مناطق امتياز متعددة، المستوى الثاني: وهو تشكيل الشراكات الاستراتيجية العالمية مع الشركات المتخصصة من خلال نقل ملكية أسهم في شركات توزيع المياه الثلاث لصالحها، وتوقيع عقود الامتياز مع القطاع الخاص لتشغيل وتمويل محطات المياه والصرف الصحي والخطوط الناقلة والشبكات الرئيسية بهدف استدامة عمل ومرونة وصيانة الأنظمة الرئيسية، ويكون المستوى الثالث: إشراك القطاع الخاص في تقديم بعض الخدمات المتخصّصة كتحصيل الذمم المالية المترتبة لصالح قطاع المياه وإدخال التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الصناعي في تخفيض فاقد المياه وتدقيق استهلاك الطاقة في مرافق المياه والصرف الصحي المنتشرة في المملكة وغيرها.
وفيما يتعلق بسلطة وادي الأردن، سيبقى دورها مقتصراً على إدارة الري وشؤون المزارعين وبناء أنظمة نقل الري وتوزيع مياهها بعدالة على جمعيات مستخدمي هذه المياه والعمل على تعزيز مبادئ كفاءة الري وإدخال الزراعة الذكية مناخياً وزراعة المنتجات البديلة ذات المردود الاقتصادي العالي بالتنسيق مع وزارة الزراعة لتعزيز الأمن الغذائي الوطني.
أمّا شركات توزيع المياه الحكومية الثلاث (مياهنا، اليرموك والعقبة) التي تمّ تأسيسها كشركات محدودة المسؤولية منذ عام 2004، فيجب تقييّم تجربتها ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها ومؤشرات الأداء الواردة في اتفاقيات التفويض الموقعة مع الحكومة الأردنية وأهمها تخفيض فاقد المياه، ودراسة جدوى توسعة مناطق عملها الجغرافية من خلال آلية "عقود الإدارة الحكومية" التي ساهمت في زيادة الأعباء عليها و ارتفاع خسائرها المالية (لتصل مع خسائر سلطة المياه) لما يزيد عن 300 مليون دينار سنوياً. ويجب أن يتضمن ذلك التقييم دراسة جدوى تأسيس شركات مياه جديدة في بعض المحافظات كالزرقاء ومحافظات الجنوب، و إشراك القطاع الخاص العالمي المتخصص في ملكيتها بشكل مماثل لما تمّ في شركات توزيع الكهرباء بهدف جذب الاستثمارات وتحسين الخدمات المقدّمة للمواطنين وخلق فرص العمل وتخفيض العجز المالي. وحيث أن هذه الشركات تعمل دون رقابة فعّالة منذ تأسيسها، يجب إدراج إنشاء جهاز إداري لمراقبة نوعية خدمات مياه الشرب والصرف الصحي وحماية المستهلك عند إعداد قانون المياه ورفده بخبرات وكفاءات متخصصة، لضمان مراقبة تقديم الشركات لخدمات بجودة عالية وإتخاذها الاجراءات التصحيحية لتحقيق الأهداف والمؤشرات التعاقدية.
وحيث ان استراتيجية قطاع المياه قد نصّت على أن مياه التحلية هي المصدر الرئيسي المستدام الذي سيحقق الأمن المائي الوطني من خلال مشاريع التحلية الوطنية والاقليمية، لابدّ من العمل على إنشاء هيئة وطنية لتحلية المياه، بحيث تشمل مهامها تخطيط ومتابعة والإشراف على مشاريع التحلية التي سيتم إنتاجها من خلال تحلية مياه البحر باستخدام التقنيات الابتكارية وأهمها تقنية التناضح العكسي والمساهمة في تحويل المياه عالية الملوحة إلى مياه عذبة قابلة للاستخدام، والإنتاج من خلال تنقيةالمياه الجوفية والسطحية المالحة (حيث أن نسبة الأملاح أقل من مياه البحر) عن طريق تقنيات وحدات تحلية مياه السدود والآبار.
* المهندس إياد الدحيّات / الأمين العام الأسبق لسلطة المياه.
"الغد"