قبل عقدين من الزمان دعيت لحضور عشاء ترحيبي بضيوف قدموا الى الاردن من ولاية يوتا الامريكية وكانت الداعية صديقة تحتل موقعا رسميا انذاك. بعد اكتمال الحضور نهض كبير الضيوف وأخرج من حقيبته قطعة سجاد صغيرة قدمها للمضيفة بعد ان شرح لنا انها مغزولة يدويا من قبل سيدات محترفات من قبيلة أسماها من الهنود الحمر .
تحدث الضيف باسهاب عن كل المواد الداخلة في صباغة الصوف ومصدره وعمليات اعداده للغزل والأدوات وكيف تطورت وعن الرسم الذي على السجادة وتحدث عن محميات الهنود الحمر في يوتا وعن فنهم وتراثهم وعن الميزة النسبية لانتاجهم وعن كيف انه احب ان تحمل الهدية هذه المعاني لتعكسها عن بلده الولايات المتحدة ....شعرت يومها وكأني في محاضرة تاريخية اجتماعية سياسية فنية ثقافية عن الولايات المتحدة .ففي عشرة دقائق حكى لنا قصة شعب ودولة ...
المضيفة بدورها حملت لوحة فنية لرسام اردني وقدمتها في اقل من دقيقة وجلست...في تلك الأمسية لم اكترث لشي سوى للتفكير في هذا الموقف وما حمله من مفارقات واختلافات في النظرة للذات والفن والآخر والحضارة والمناسبة ومعانيها ودلالاتها.
السؤال الذي يبقى يلح عليي كل مرة اتي على ذكر السياحة يتعلق بوظيفتها ..اي لماذا يرتحل الناس من مكان إلى آخر؟ ولماذا ترحب الدول بالسواح ؟ وما عائدات السياحة على المواطن وعلى المجتمع وعلى سمعة الدولة ومكانتها ؟ ولماذا انشأنا وزارة للسياحة ؟ وكيف ندير هذا القطاع ؟ وهل هناك ادراك وتقدير لمواردنا السياحية ؟ وهل نجحنا في توظيفها بالشكل اللائق؟ قائمة الأسئلة طويلة والإجابة عليها ليست معقدة؟
الاردن الذي يتمتع بموقع يتوسط العالم ويزخر بطاقة روحية وتنوع تضاريسي ومناخي يصعب ان تجده في مكان اخر يعلق امال كبيرة على السياحة ويحتفل من وقت لاخر بإنجاز هنا ونجاح هناك لكن سرعان ما تتبدل الاوضاع وتعود الأمور إلى سابق عهدها وتبدأ رحلة التبرير وإلقاء اللوم على احتدام الصراع وتفشي الكوفيد١٩ وأشياء أخرى.
صحيح ان الاردن بلد يملك العشرات من الموارد والعناصر والمرافق والميزات الجاذبة التي تؤهله ليكون في مقدمة بلدان المنطقة ومن بين افضل المقاصد التي يمكن ان يختارها السائح العربي لكنه يعاني من مشكلات مزمنة وليست مستعصية على الحل اذا ما أعطينا للسياحة الأهمية التي تستحقها واسند ملفها للكفاءات الاكثر خبرة ودراية ومعرفة في الميدان بعيدا عن اعتبار الملف كباقي الملفات التي يمكن ان يعمل على ادارتها اي فريق بصرف النظر عن مدى الاهتمام والايمان بالقطاع والخبرة في التعامل معه....
قبل سنوات توجهت والصديق الدكتور طالب الرفاعي من عمان متوجهين الى مدينة الكرك عبر طريق الموجب وقد مررنا يومها بمادبا وقرى الحمايدة وذيبان وقطعنا مسافة تزيد على ١٤٠ كم دون أن نشهد استراحة او نقطة يمكن التوقف عندها لاستخدام حمامات نظيفة .
الاكواخ التي اقامها شباب المنطقة على حافتي وادي الموجب تفتقر الى ما يؤهلها لتجذب المارين للتوقف فلا شيء يوحي بأنك ستجد مكانا يحوي المرافق التي يمكن ان يستخدمها السائح . وفي ذلك المساء وبعد عودتنا صادفنا واحدا من اهم المسؤولين في القطاع واخبرناه عن ملاحظاتنا فظن اننا نتحدث عن تقاطع وادي الموجب مع طريق الزارة وتبين انه لا يعرف ان هناك طريق باتجاه الكرك تقطع وادي الموجب ..حزنت يومها كثيرا وتذكرت قصة وزير من الوزراء الذي اتصلت به احدى محطات الإذاعة التي تبث برنامجها الصباحي على الاثير مباشرة لتقدم له شكوى من مواطن في الرمثا فقال يومها " هي الرمثا وين جايه".
مشكلات السياحة متعددة ولا يمكن اختزالها بأرقام لكنها تتعلق بتردي مستوى الخدمات في المواقع السياحية وغياب القصة التي يمكن ان تروى عن الموقع والمكان والثقافة والطعام وارتفاع كلف الترويج والخدمات .
السياحة في الاردن لا تفيد كثيرا الفقراء ولا اصحاب الأعمال والمرافق السياحية الوسيطة فهي تستهدف الشريحة عاليةالانفاق وتتجه لمرافق الخمسة والاربعة نجوم والمطاعم السياحة الأعلى سعرا وكلفة .
السياحة التي يمكن ان تتوجه الى فنادق النجمتين والبنسيونات وتستفيد منها المطاعم الشعبية والمواصلات العامة والمتاجر الشعبية واهالي البلدات والقرى نادرة ان لم تكن معدومة .لذا فإن عائدات السياحة ودولاراتها لا تدور في الاقتصاد كما تدور عوائد القطاعات التي تلامس حياة الناس.
السياحة في الاردن لا تقتصر على جمال مدينة تاريخية حفرها الانباط في الصخر قبل قرون من الزمن ولا ان يأتي البعض ليشاهدوا مدرجات و أكوام حجارة مهدمة لمدن انشأها أقوام سكنوا هذه البلاد ونعرف اسماء بعضهم...السياحة حالة استمتاع وخبرة فريدة يعيشها الزائر وتعلق في وجدانه وذاكرته لينقلها لكل من يصادفه في بلده وفي العالم ولا يتحقق ذلك الا اذا كان مزاجنا كاردنيين سياحي بامتياز نرحب بالضيوف ونقدم لهم خدمات نظيفة وصحيه ونعرض لهم ثقافتنا وطعامنا ولباسنا وسلوكنا الأخلاقي بعيدا عن العجرفة والنزق والاستغلال والاستعلاء ...
اظن ان الاردن جميل لكنه يحتاج إلى قصة يصيغها من يديرون القطاع بحرفية وروح انسانية تشبه الاردن وانسانه ..ويحتاج الى تطوير البنى التحتية في المواقع والمرافق الصحية في كل مكان وبحاجة الى تخفيف المخاوف والقيود والاشتراطات وادراك ان الناس يذهبون الى الاماكن المختلفة لما فيها من جذب ويتجنبون بعض المقاصد لما فيها من عناصر التطفيش