بشكل مفاجئ، ودون سابق موعد، تتدفق آلاف الفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر-اكس، وتيكتوك من داخل غزة، وغيرها كلها تشتم هجمة السابع من أكتوبر، وتتحدث عن كلفتها على الحياة الإنسانية، وتدمير القطاع، والاضرار التي لحقت بالاقتصاد.
لم تكن لتسمع مثل هذه الفيديوهات بداية الحرب، والذين يخرجون في هذه الفيديوهات خرجوا في هذا التوقيت، وعلى الأغلب هم أكثر من صنف من حيث الدوافع، الصنف الأول الإنسان العادي المتضرر الذي لا يمكن التشكيك بوطنيته أبدا، وهو يتحدث أمام خسارته الإنسانية بكل الم، ولا يمكن اتهامه هنا بأي تهمة أو تشكيك، والثاني قد يكون من اولئك الذين على صلة بأجهزة اوسلو الأمنية وجماعاتها الموجودة أصلا في غزة، ويريدون إثارة أعصاب الفلسطينيين في القطاع، ضد المقاومة، وتشويه سمعة المقاومة من خلال الحديث عن الحرب، وكلفتها الإنسانية، لكن الدافع الأساسي يأتي في سياق صناعة انقلاب على المقاومة تعبيرا عن صراع سياسي على حكم غزة، والرغبة بشطب أي تنظيم مقاوم وتنفيذ اجندة إسرائيلية بالمحصلة، والثالث قد يكون على صلة مباشرة بإسرائيل التي ربما لها شبكات قليلة العدد مطلوب منها بث الاحباط واليأس والتحريض، وتدمير المعنويات، وقد كشف أحد الغزيين مؤخرا أن إسرائيل طلبت من أحد الأشخاص بث الإشاعات داخل القطاع حول خسائر المقاومة، مقابل المال، والشخص الذي رفض الطلب عاد وكشف كل القصة بما يعني أن الحرب هنا معنوية، ونفسية.
القدرة على تمييز دوافع المتحدثين من داخل قطاع غزة، منخفضة جدا، لانك لا تعرف خلفية الشخص المتحدث، ولماذا يركز على صور الدمار في الأحياء، والحالة التي يعيشها الناس، ويربط ذلك بهجمة السابع من اكتوبر، تحديدا، وليس بالمشروع الإسرائيلي الذي يقتل منذ 80 سنة، ليأخذنا إلى الاستنتاج الذي يريده أي أن المقاومة، حصرا، تسببت بحرق القطاع وتدمير أهله وحياتهم، وهذا يعني أن الصنف الأول من أصحاب الفيديوهات الذين اشرت اليهم مسبقا والذين يتحدثون بحسن نية عن خسائرهم وخسائر القطاع وينتقدون ضمنيا هجمة السابع من اكتوبر، يتورطون من حيث لا يعلمون في تحقيق غايات الصنفين الثاني والثالث، من حيث تدمير الروح المعنوية للناس، وبما يصب في النهاية لصالح الأجندة الإسرائيلية.
في كل الأحوال هذه حرب نفسية، يراد منها تعظيم الندم، والشعور بالهوان والضعف والعجز، ومن المفهوم هنا أيضا أن أحوال الناس صعبة جدا، ولا أحد ينكر ذلك، من حيث الاضرار البشرية واضرار الاقتصاد والبنيان والنزوح والبنى التحتية، لكننا نتحدث عن تعمد إغفال كل الاضرار التي وقعت بحق أسرائيل على مستوى جيشها، من حيث عدد القتلى والجرحى، وهي أرقام تخفيها إسرائيل أصلا، ومن حيث اضرار المعدات العسكرية، والتورط في حرب للشهر العاشر دون حسم النتائج، واستنزاف اقتصاد إسرائيل، وتضرر قطاعات كاملة في إسرائيل مثل السياحة والبناء والتكنولوجيا والزراعة، وما يرتبط ايضا بخروج الإسرائيليين من إسرائيل، وتوقف موجات الهجرة الى فلسطين، وتضرر سمعة إسرائيل الدولية بشكل غير مسبوق، وانفتاح جبهات ثانية على إسرائيل من لبنان واليمن والعراق، وترحيل الإسرائيليين من جنوب فلسطين، وشمالها إلى مواقع آمنة، وما يرتبط ايضا بتراجع النمو، وزيادة العجز المالي، وحالة التناقضات والتراشقات داخل مجتمع الاحتلال، والخلافات السياسية التي تتم المجاهرة بها، فوق الخلافات على مستوى التقييمات الأمنية والعسكرية، وحالة التضاد العلنية في كل التعبيرات.
الذي يريد التباكي على قطاع غزة بحسن نية أو سوء نية، عليه أن يقرأ ايضا بالتوازي خسائر المجتمع الإسرائيلي على كافة المستويات، لان "القراءة المختلة" على صعيد قطاع غزة وحدها، أو ما يجري في الضفة الغربية يتورط من حيث يحتسب او لا يحتسب، بعملقة إسرائيل، والشراكة معها في حروب "الاعلام الشعبي" إن جاز التعبير في سياقات حرب أوسع، تريد شق بينة المجتمع الفلسطيني، واثارة التناحر، والكراهية، وربما إشعال حروب الاخوة في قطاع عزة، وانهاء أي دعم عربي وإسلامي ودولي على المستوى الشعبي.
وهل كانت إسرائيل توزع الحلوىات على الفلسطينيين طوال ثمانية عقود، لولا هجمة السابع من اكتوبر التي افسدت حياة الناس، وحرمتهم من هذه المذاقات الطيبة.. والسؤال مفرود الاجابة.
"الغد"