الهجرة النبوية نظام متكامل للتاريخ الإسلامي وحضارته الإنسانية
د. ضرار مفضي بركات
07-07-2024 12:14 AM
الحمدُ لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتمُ التسليم على المبعوثِ رحمةً للعالمين، سيدنا محمد وعلى آلهِ، وصحبه أجمعين، وعنا معهم جميعاً يا رب العالمين، وبعد:
تُعتبر الهجرة النبوية الحدث التاريخي الأبرز، والذكرى العظيمة التي رسمت عناوين ومعاني ودروس مستفادة لها مكانتها عند المسلمين، فهي هجرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم من مكة إلى يثرب، والتي سُميت بعد ذلك بالمدينة المنورة، بسبب ما كانوا يلاقونه من أذى وعذاب من زعماء قريش، خاصةً بعد المقاطعة وعام الحزن، ولقد كانت في عام 14 للبعثة، الموافق ل622م، واتُّخِذَت الهجرة النبوية بداية للتقويم الهجري، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب بعد استشارته لبقية الصحابة رضي الله عنهم في زمن خلافته، واستمرت هجرة كل أراد الدخول في الإسلام إلى المدينة المنورة، حيثُ كانت الهجرة إلى المدينة واجبة على المسلمين، ونزلت الكثير من الآيات تحث المسلمين على الهجرة، إلى أن أكرم الله تعالى نبيه والمسلمين بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، فالهجرة النبوية بأسبابها ومقدماتها، وأحداثها ومعانيها "نظام متكامل للتاريخ الإسلامي وحضارته الإنسانية"، وتقرير ذلك في قسمين، هُما:
القسم الأول: أسباب الهجرة النبوية ودوافعها وبعضاً من لحظات أصالتها التاريخية:
إنَّ للهجرة أسباب ومقدمات ودوافع، دفعت النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى أن يتركوا بلدهُم، وموطنهِم، مع أنَّ مكة كانت لهم كل شيء، فهي كانت أحبُ البقاع إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّ أذى قريش وتعذيبهم وصدهم وعنادهم بكل وسائل الإكراه والسلب للإرادة، وبسلوكيات سلبية مشوهة وتصرفات قولية وفعلية، كفراً وتصدية لكل من أراد بالدخول في الإسلام، منعاً ومقاطعةً له، فضلاً عن التآمر بالليل والنهار على صد الدعوة داخل مكة وخارجها،وفي هذا دافعين مهمين للهجرة النبوية، هما:
1- دفاعاً عن النفس وحمايتها من القتل والتعذيب بشتى ألوان وأنواع التعذيب، بالضرب والقمع والحبس، كقتل وتعذيب آل ياسر، وتعذيب بلال، وضرب أبي بكرٍ وغيرهم -رضي الله عنهم- فالهجرة لم تكن إلا بعد صبر وتحمل عظيمين، خاصةً المقاطعة لبني هاشم والمسلمين، التي كان لها آثارها ومخاطرها على المسلمين، وعلى الرغم من صبرهم، إلا أنَّ أذى قريش وعندهم واستكبارهم على الحق استمر.
2- حاجة الدعوة إلى الإسلام إلى الأمن والاستقرار، فلم يكن متوفراً مع شدة الصد وغلظة أذى كفار قريش على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصاحبه.
وهكذا جاءت الهجرة النبوية بدوافعها المُلحة، حفظاً للمقاصد الشرعية، الضرورات الخمس:(حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، ربطاً بأهمية الديار، وما فيها من أصل الأمن، والاستقرار الجسدي والنفسي؛ لتبليغ الدعوة ونشرة وعبادة الله تعالى بأمن وإيمان، وصولاً إلى المدينة، وكتابة وثيقة المدينة، والمُؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وحماية المسلمين، وبناء المدينة أخذاً بالأسباب بالعمل المُثمر إلى جانب التوكل على الله –جل وعلا-ولتكون المدينة المنورة نواة(الدولة الإسلامية) بكل رصانة وإتقانٍ، لها مناعتها الفكرية والدينية، والاجتماعية، والعسكرية، والدبلوماسية على المستوين المحلي والدولي، ولتكوين ثقافتها وحضارتها الإسلامية(الإنسانية والإبداعية) أساسها: الرحمة والعدل والإنصاف، وبث الأمن والاستقرار، ونبذ التطرف والتفرقة، وحفظاً للحقوق والكرامة الإنسانية، بعيداً عن الإكراه وسلب إرادة الغير، قال تعالى:(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(256:البقرة).
القسم الثاني: الهجرة النبوية نظام حياة عملي متكامل:
إنَّ الهجرة النبوية تُمثل الجانب اليومي الحياتي (العملي والعلمي) تميزاً بالرصانة والدقة، والحيوية، أخذاً بالأسباب، لأنَّ هذا هو الأساس في توفيق الله تعالى لعباد؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(105: التوبة).. فالنبي أعظم الأنبياء والرسل، ورسالته أعظم الرسالات: خالدة، باقية، صالحة لكل زمان ومكان، وإما سيرته كاملة بكل أحداثها ابتداءً من ولادتهِ وحتى وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى-عز وجل-فهو أحب وأكرم الخلق إلى الله تعالى، وهو الشافع والمشفع، وحبه وإتباعهُ، والصلاة عليه، ودراسة سيرته والاقتداء به، وبمنهجه، ومنهج أصحابه -رضي الله عنهم- طاعة وعبادة، وأجرٌ وثواب، ونجاة واتقاء، وبر وصلة، ومحوٌ وغفران للذنوب والمعاصي، وسببٌ لدخول الجنة، ومرافقته فيها.
وهذا منهج رباني، من كمال رسالته الخالدة، بالإتباع لمنهج النبوة طاعة لله تعالى، ومحبةٌ لرسولهِ وإتباعاً لمنهجه النبوي الرباني؛ قال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ() قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾(32-31:آل عمران). وبالاستقرار يتحقق الأمن والإيمان، ونشر دعوة الإسلام بتمامه وكماله، فكانت أهمية ودور الهجرة النبوية مع قسوة أسبابها ودوافعها محققة لذلك، فالهجرة النبوية هي جزءٌ مهمٌ من السيرة والسنة النبوية، الذي بهما يُمثلان الجانب العملي والتطبيقي لحياة المسلم، كمنهج حياة ونظام مُتكامل، أساسهُ يتمثل بما يلي:
1- أنَّ دعوة النبي للإسلام المتصف بدين الكمال، هو ما ارتضاه الله تعالى لعباده؛ ليكونَ قانوناً للحياة ودستورها بقيمه، ومبادئه، وأحكامه وتشريعاته. قال تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(3:المائدة.(
2- أنَّ النبي قدوة لأصحابه وللمسلمين جميعاً، فلقد كانَ مبلغاً ومبشراً ومربياً ومعلماً، لأصول الدين الإسلامي، العقدية، والأحكام الشرعية، والأخلاق التربوية، والاجتماعية العظيمة؛ التي تهذب وتضبط السلوك والتصرفات، بل ويستشعر الإنسان الهدف من وجوده، وهذا هو أثر التمسك والعمل بكافة خصائص وأساليب التربية الإسلامية، والحث عليها.
3- أنَّ النبي على الرغم من نصرة وحفظ الله تعالى له إلا أنهُ أخذ بالأسباب، وهو السبب الرئيسي لتوفيق الله تعالى للعباد؛ لأنَّ جوهرهُ ومضمونهُ، حُسن الإيمان والتوكل على الله -عز وجل- والإنابة إليه والتفويض إليه، والرجوع والتوبة إليه -جل وعلا- وهذا من أعلى درجات الثقة، والمحبة، والطاعة التي يلتزم بها العبدُ إلى ربه –جل وعلا- فكانَ من الدروس المستفادة من حلم النبي وصبره في الهجرة، أنهُ لم يهاجر إلا بعد أن أذنَ له الله-عز وجل- له، وبعد أن أمنّ أصحابهُ بالخروج قبلهُ، بحيث لا ينتبه كفار قريش لخروج المسلمين سراً، بتأثر السوق بالقوة الشرائية أو بنقص وجود السكان، فليفت انتباهم.
4- الصحبة الصادقة: كمرافقه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- للنبي وكذلك إصرار فداء علي رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام عندما نامَ بفراشه، وكانَ النبي عليه الصلاة والسلام قد خرج ومرَ من بين كفار قريش وكانوا متربصين لقتله، لكن عناية الله فوق كل عناية، فما رأوهُ؛ قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾(9: يس).
5- الإصرار على الأخذ بالأسباب على الرغم من أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام جهز له صاحبه أبو بكر من الركوبة والزاد والمتاع للهجرة، والرجل الذي يدل لهم على الطريق ومن يكشف لهم أخبار قريش، فهذا إصرار حق، وتضحية وفداء، لكي تكون كلمة الله تعالى هي العليا.
6- بالمقابل إصرار صناديد قريش الذين جعلوا لمن يقتل محمداً أو يأتي به حياً له مئة ناقة! = إصرار على الكبر والأنفة، والباطل ما كانَ إلا زهوقاً.
وما تقدم هي جملة من معاني الهجرة النبوية، إذ هي اللحظة التاريخية الحاسمة لعزة الدعوة إلى الإسلام، وبناء المجتمع والدولة الآمنة المستقرة؛ انطلاقاً من مهمة النبي عليه الصلاة والسلام التبليغ ونشر دعوة التوحيد، واللذان لا يتحققان إلا بتحقق الأمن والاستقرار، قال تعالى:﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾(195: آل عمران). وليعود النبي وأصحابه بعد ذلك إلى مكة موطنهم الأول، بنصرة من الله تعالى وتوفيقه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ- فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ (96-97: آل عمران).ولما دخلَ النبي مكة فاتحاً، دخلها خافضاً رأسهُ تواضعاً، حُباً وكرامةً وعظمةً لهذه البلدة، وبيت الله الحرام، من غير كرهٍ أو إكراه، وبالسلم والإسلام، والأمن والإيمان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام لأهلها "اذهبوا فأنتم الطلقاء" فهذا من أكبر الشواهد على عدل وسماحة رسالة الإسلام الخالدة، وعلى عدل وسماحة النبي الرحمة المُهداة من الله -عز وجل- للعالمين؛ قال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (107:الأنبياء(. إلى جانب ضرورة "حُسن الإيمان" في الأخذ بالأسباب والتوكل على الله -عز وجل-.
* الكاتب محاضر غير متفرغ/ج. جدارا/ وعضو الاتحاد الأكاديميين والعلماء العرب/ وعضو رابط الأدباء والمثقفين العرب/ ويعمل لدى وزارة التربية والتعليم/ المملكة الأردنية الهاشمية
((Drarbrkat03@gmail.com