مرّ حينٌ من الدهر على الريف كان الاخ الاكبر يشكل ركنا اساسيا في الهرم الاجتماعي وقيمه. فهو كبير الدار في غيبة الاب والمفوض المطلق الصلاحية في اخذ زمام الامور وتوجيهها. وهو في ذلك يمتثل لقيم سائدة يكرسها الاب والمجتمع معا ليصيغانه أباً قبل الاوان. تكبر العائلة ويتقدم الاب في السن وتاخذ احواله الصحية في التردي مُسندا جزءا غير يسير من مهماته الى ابنه الاكبر. يبدأ هذا في متابعة حثيثة لشأن الاغنام والارض والحصاد وزيت الخوابي. يُقوّم الاعوجاج ان حدث بين الاخوة فيردع المعتدي تأنيباً وفي الضرب احيانا.
بكلمة، تصيغ الايام والسائد شخصية هذا الاخ ليكون مواصلا امينا ومحافظا بشدة على قيم السائد. يأخذ الله وداعته فيرحل الاب الذي تبكيه الديرة والصغار لكن الام هي اكثر الخاسرين، فمصيرها الى وحدة وان شغلت النفس في القيام على الاسرة وتعزيز سيطرتها، التي تصطدم بالضرورة بقوة منافسة اي سلطة ابنها الاكبر واتجاهاته القيادية التي ترسخت في سالف ايام المرحوم.
احيانا كانت زوجة الاب تتقدم منافسة على قيادة الدفّة وهي في ذلك تؤكد ان حظ ابنائها لا يمكن ان يُغمط مهما بلغ الخلاف الذي قد يبدد وحدة الاسرة الخارجة للتو من العزاء.
يصير موضوع الخلاف على الالسن وحديث التعاليل، فيتدخل وجوه الخير "لتجبير" ما كسرته الانفس المتنازعة على ميراث لم يبلغه الخلاف بعد.
توفد العشيرة رجلا وامراة يتصفان بحسن الاستماع والتاثير في التاكيد على استحضار تجارب الماضي والاسر التي تعرضت لاحوال مماثلة، فضلا عن التذكير بسيرة الاب الراحل العطرة التي لا بد وان تكون رادعا لاي خلاف قد يعصف بالعائلة. كما يؤكد الموفدون ان الخلاف يمكن حله لكن مع مراعاة القيم والاعراف السائدة و"توجيب" الاكبر الذي غدا الكبير بلا منازع.
ذات خلاف رفضت فضّة" الزوجة الثانية للراحل زعل التسليم بمفهوم "كبرة" الاخ الاكبر في التركة رغم انها عرف متوارث تقره العائلات لابنائها الكبار دون اي شعور بالغمط. الراحل زعل ابقى تركة كما روى الناس "طويلة عريضة". وزادوا وصفا لكثرة أمواله " قروشو ما تاكلها النار"، اضافة الى الاطيان و"موارس" الارض التي "يطارد فيها الخيال" لاتساعها.
..و"الكبرة" هي تمييز للاخ الاكبر عند اقتسام الميراث في بعض الريف، أفضت اليها البنى الابوية في الاجتماع الريفي على تعدد اشكالها وخصوصياتها.
طال خلاف عائلة زعل رغم الوساطات وبدا انه لن يحل الا في الرجوع الى القضاء العشائري او المدني في عمان البعيدة عن الديرة مسير يومين على الحصان.
تمسكت "فضّة" المدعومة من اهلها وبعض مناكفي "شيخ" العشيرة الذي بدا منحازا بلا مواربة الى جانب الابن الاكبر حفاظا على الهيبة وتمسكا بسائد يمثل سلطة بقائه.
..في احد صباحات القرية وصل "البيّاع" محملا بزيت وقطين واصناف من الحلويات . اشتهر "البياع" في الديرة خلال "عِشرة" طويلة بحصافة الراي والاستقامة والامانة حتى بات قريبا من الناس جميعا. وبلغ موقعه في النفوس مكانة كبيرة، وهو لم يهمل طلبات النسوة خصوصا المتزوجات حديثا والفتيات والشبان المتولهين في غرامياتهم فيجلب معه ما يخطر وما لا يخطر على البال من "حوائج" ترضي نهمهم.
طاف "البيّاع" في البيوتات والعرائش وبيوت الشعر محييا الاصدقاء والمعارف وسائلا عن وجوه لم يـألف غيابها. اخبروه ان فلانا يرعى غنم فلان في منطقة بعيدة وآخر رحل باسرته بحثا عن حياة أفضل، وثالثا توفاه الله. كان غياب زعل قد استوقف "البياع" اذ جمعتهما صحبة وطيب معشر. اخبروه بوفاة الرجل واحوال العائلة. ضرب كفا بكف على صديق عزّ نظيره شهامة ورجولة وصدقا وطيبا. شعر ان واجب تقديم العزاء يقتضي ذهابه عل الفور الى بيت صاحبه الراحل. في طريقه اخبره مرافقون آثروا ان يطلعوه على مستجد الاسرة بعد رحيل كبيرها، وسألوه ان كان في مستطاعه قول كلمة طيبة علّها تفضي الى فض خلاف قد يصل الى القضاء العشائري او المدني. دُهش "البيّاع" وامتقع وجهه واعدا ان يلقي بثقله لحل الخلاف اعتمادا على معرفته بالاسرة صغيرها وكبيرها.
لاحَ للبياع تغيّرٌ وصمتٌ لم يعهدهما في ماضي الايام حين دخل "حوش" بيت الراحل زعل. فقد كانت هناك باحة مفروشة دائما بالبسط تتوسطها "دلال" القهوة و"اباريق" الشاي، لكن شيئا من ذلك لم يكن في الباحة التي خلت من معالم الحياة.
"يا اهل الدار" يا اهل الدار" نادى احد مرافقي البياع . خرج الابن الاكبر الذي حيا "ضيوف الرحمن" . اجلسهم وبادلهم التحية وقدّم القهوة . سأل "البياع" عن احوال الاسرة مقدما اعتذاره عن تعزيته المتأخرة بعض الوقت.
خلال تناول الشاي كان الحديث في العموميات وعن مناقب الفقيد ومكانته الكبيرة. ترك "البيّاع" الذي يجيد اصطياد اللحظة الامر على انسيابيته وسجيته حتى انقذه تعبير تردد" اولاد الحرام لا خلوا ولا بقوا" ، فتدخل موجهاً حديثه الى مُضيفه:
يا ابني قد سمعت بخلافكم على الميراث و"الكبرة". إن تفحصت بنظرة محايدة ما تصر عليه فهو تمسك بالظلم وان كان عندنا يسمى حفاظا على الموروث. ظلم يعترف به الجميع ويزكونه، فان اردت ان تكون كبيرا حقا فعليك ابتداء ان لا تستمع لمن يوغرون صدرك. وان لا تتمسك بمسلمات نتوارثها لا تكرس الا الفرقة. انت في وضعك مسؤول في العائلة ولا تريد ان يعتدي احد من الداخل او الخارج على مهابتك. وزاد يقول محاولا التاثير على الشاب المُنصت: رفض زوجة ابيك الاقرار بحقك في"الكبرة" دفاع عن حق ابنائها وهو سعي للخلاص من بعض الظلم الموروث وليس من الظلم كله. هي في شروطها لابقاء الارض موحدة تتحدث عن ضمانات للحد من هذا الظلم وابقائه في حدود دنيا.
قال آخر: والله يا قرابة ان الدنيا لا تدوم لاحد فالمهم ان تكسب اخوانك حتى وان تنازلت عما تعتقد انه حق، فلو دامت لغيرك ما وصلت اليك.
انصحك ان تذهب الى الشيخ وتعلن تنازلك عن مطلبك، ففي ذلك اجتماع شمل العائلة وتعزيزها، وثق ان في ذلك الناموس كله لان وحدة العائلة والقبيلة ضرورة يكتفي الناس بها ويلتزمون الدفاع عنها. قال ثالث: يا قرابة لا تعاكس الريح في وجهتها، ولا يغرنك ما آل اليك من نفوذ ومال، فبه قد تكون اكثر ضعفا، لكن القوة في وحدة النفوس .
قال الراوي ان الشاب لم يقم في رده اعتبارا لداعيه بل انه اجابهم في ما يشبه الازدراء متعنتا ودافعا بالخلاف حتى النهاية حتى غادروه متوجسين من ان مصير هذه العائلة بات في مهب ريح.