الديمقراطية الساخنة والديمقراطية الباردة
د. صبري ربيحات
01-07-2024 03:10 PM
حكم الشعب للشعب هو المعنى او الفحوى لما يقصد به من استخدام مصطلح الديمقراطية الذي نشأ في الحضارة اليونانية قبل أكثر من الفي عام. في الغرب والشرق يجري بصورة دائمة العمل على الموازنة بين رغبة الحاكم في الاستحواذ على السلطة والتحكم في الموارد ومصائر الخلق ورغبة الناس في العيش بحرية وسلام وأمن في جماعات يسودها الإنصاف والعدل ويحق فيها الحق ويكبح جماح وميل البعض المفرط للسيطرة والظلم والتحكم.
المسألة ليست بالسهولة التي تطرح فيها الشعارات فالنفس البشرية متخمة بنوازع الشر والاستعداد لعمل الخير والقوة موزعة بشكل غير منصف والتأثير للناس والجماعات والافراد متباين بسبب الموقع والثروة والانتماء والتحصيل والقدرة والملكية والطبقة والتعليم وغيرها من العوامل. لكل ذلك فإن الحديث عن وجود ديمقراطية يعني وجود اسس للحراك او الانتقال او التعبير والتأثير ولا يعني بالضرورة ان ذلك منجز على الارض او يمكن الوصول اليه.
في حالات كثيرة تحد الشروط القواعد والأسس التي يضعها من هم في موقع السلطة من مشاركة من يحتاجون للمشاركة الفعلية لا بل قد تكون هذه الاسس موضوعة لمنعهم او لتقليل فرصهم.
المجتمع العربي بصورته القبلية مجتمع اكثر تنظيما وتراحما وتعاضدا واهتماما بالفرد من كل صيغ التنظيمات التي أدخلت على المجتمعات العربية.
في البنى العشائرية يوجد تحديد واضح للمراكز والادوار وفهم مشترك للحقوق والواجبات ومعنى موحد للهوية وقيم وعادات وتقاليد واعراف تحكم سلوك الافراد وتعالج مسائل الخروج على المعايير وطقوس صيانة الجماعة وقواعد الحراك من موقع الى موقع ويعمل الجميع على خدمة الهوية المشتركة وادامة البنى والاستجابة للمخاطر والتهديدات ويشترك الجميع في السمعة والثروة والارض والمجد.
غالبية المحاولات التي جرت للتغيير والتبديل والتحول اسهمت في إحداث خلل في علاقة الانظمة بالمجتمع وشوهت صورة المجتمعات العربية وافقدتها شيء من جمال روحها حيث اربكت الافراد الذين وجدوا انفسهم في مجتمعات تحكمها طبقات مستغلة جرى تشكلها خارج أطر المعايير المعروفة والمألوفة وتحت شعارات المصالح الوطنية "العمومية".
صحيح ان الاهتمام الزائد للانسان العربي بالسياسة جاء كنتيجة لشعوره بكراهية الغرب وعدائهم لكل ما هو عربي واسلامي لكن السبب الاهم وربما الاعمق يتعلق باحساس الانسان العربي بظلم الانظمة وتجبرها وتعثرها في قيادة المجتمعات العربية لتأخذ مكانها بين دول ومجتمعات العالم التي استطاعت تحقيق انجازات صناعية وبحثية واقتصادية جلبت لشعوبها الرفاه والحياة الأفضل.
في احدى البلدان العربية كان احد عتاة المحافظين او من حاولوا عرقلة الجهود الإصلاحية في بلده يردد اقتباس مشهور يقول "Democracy is too precious to be left to the people" اي ان الديمقراطية أثمن من ان نتركها للعامة بمعنى ان علينا ان نعيق اي تحول لكي لا نخسر مواقعنا ومكانتنا.
ولم يكن ذلك قولا فحسب بل تمت مرارا هندسة مخرجات اي جهد للتحديث او التغيير ليمنع حدوث تغيير حقيقي.
على كل الوجوه حتى الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب لم تعد تحتفظ بصورتها الجذابة فقد جرى العبث بالرأي العام وارادة الناخبين وشراء ذمم من انتخبوا لخدمة قوى ومصالح ترى ان بإمكانها التحكم في العالم.
في الاردن وخلال اول انتخابات نيابية بعد عودة المجالس النيابية عام ١٩٨٩ احس الناس بقيمتهم وأهمية أصواتهم فكانوا يترددوا على مقرات المرشحين في القرى والارياف والمدن.. من بين من كان يأتي الى مقرات احد المرشحين في الكرك كان فلاح كركيا يحرث الارض ويعود منهك من التعب لكنه كان يذهب ليتناول نصيبه من الكنافة التي يحضرها المرشح لمؤيديه كل مساء . الفلاح الكركي الذي دأب على التواجد يسمع الكلام ولا يلقي له بالا فهو يعرف تماما ان الكنافة تأتي وانها ألذ مذاقا عندما تقدم ساخنة
ذات يوم حضر صاحبنا بعد يوم عمل طويل وما ان جلس على كرسيه في المقر حتى غالبه النعاس فغفى ليصحو على صراخ من في المقر واحدهم يصرخ الديمقراطية مش هيك الديمقراطية فظن صاحبنا ان من يصرخ يحتج على الكنافة معتقدا انها هي الديمقراطية ...وقف صاحبنا في المجلس وقال يا جماعه مش مهم هاتوها وهيه ساخنة ..
الديمقراطية لا تعني ان اوزع الدوائر واحدد الحصص ولا تعني ان اؤسس احزاب ألوانها بين الفاتح والمونس والغامق والديمقراطية لا تعني ان يتجول احد او عشرات في مجالس مناطقهم الانتخابية ليقولوا انهم تلقوا الضوء الأخضر....الديمقراطية اشي ثاني.