لعلّه لم يمرّ بالأردنيين قطيعة رحمٍ مع الحكومات كما هو الحال في العقد الأخير من عمر الدولة الأردنية . وما كانت القطيعة أظهر منها اليوم . حتّى آلت وسيلة الحكومة في التواصل مع الناس إلى ما يشبه " رسائل شوق " لمن يذكرها ولكن رسائل حكومتنا _ والحمدلله _ لا تحمل الشوق إلا لما تأخذ لا إلى ما يطلبه المستمعون . وقد كان برنامج ما يطلبه المستمعون الإذاعي من المساحات التي يُمارس المواطن من خلالها خياره واختياره ، ولكنّنا وبعد مرور أعوامٍ وأعوام كنّا نؤمل فيها أن تتوسّع مساحتنا في الإختيار، وإذا بالإستماع للإنشاء يتوسع ولكن بلا خيار ولا حتى " فقوس " ، وحتى برامجنا الإذاعية والتلفزيونية أصبحت " قرأت لك " و " اخترت لك ".
ولا نبالغ أبداً إن قلنا بأن معظم الشعب الأردني بما فيه نخبه السياسية ما عادوا يعرفون أسماء كثيرٍ من وزراء الحكومة فضلاً عن أشكالهم، وبدأ التحوّل في المفاهيم لدى الحكومات ولدى الناس على حدٍّ سواء بأن الحكومات صارت لتصريف الأعمال والعمل المكتبي الروتيني المصحوب بالبيروقراطية القاتلة التي لا تعبأ بمعاناة المواطن وتعطيل مصالحه .
صار مألوفاً جداً أن يراجع المواطن الدوائر الحكومية ولا يجد جواباً ولا تبريراً للرفض للمعاملات وعدم الموافقات ، والتي هي أسهل ما يجيب به الموظف العام ، وأسلم إجراءٍ يتم اتخاذه بالنسبة له مهما كانت آثاره على المواطن أو الإستثمار ، فصارت " اللاء " أو " عدم الموافقة " أو " للدراسة " أو " لعرضها على اللجنة " هي الإجراءات الرسمية على أي معاملة وكلها تُفضي إلى الرفض .
وقد صار مألوفاً أيضاً أن يكون التبرير للتعطيل في الإجراءات والمعاملات لدى الموظفين العامين مهما كانت رتبهم الوظيفية بما فيهم الوزراء أحياناً ، هو بعبع هيئة مكافحة الفساد كما يدّعون وكأن الهيئة إياها تأخذ بالظُّنّة ، وأنّ الإتهامات الجزافية حاضرةٌ لديها ، وأن البريء لديها متّهمٌ حتّى تثبت براءته !
وفي ظلّ هذا الفساد الإداري الذي يجده المواطن في كثير من الدوائر الحكومية والوزارات ، والذي لا يقلّ خطراً عن الفساد المالي بل يزيد عليه ، فقد نشأت ثقافة وممارسة التسليك وظهرت بيئة أعمالٍ جديدة يُمارس فيها بعض النافذين أو المرتبطين معهم أو بعض الدجّالين والمتفذلكين نشاطاً مدفوع الأجر كتسميةٍ مرادفة للرشى وذلك لتسليك المعاملات القانونية منها وغير القانونية ، وضمن هذه البيئة أصبح هناك سلسلة من المسمّيات المرتبطة بالإنجاز وإنهاء المهام "تسليم مفتاح ". فهناك الوسيط والأجير والمُتبّع والمسرّع والمعلم . ولكن طبيعة المعاملة وظروفها هي التي تُحدّد الأيدي العاملة والمتداخلة فيها ، بالإضافة لرغبة وطبيعة ومزاج المعلم أحياناً والتي تعمد إلى توسيع نطاق العمل أو تضييقه وحصره .
كنّا فيما مضى نطالب الحكومات بأن تكون ذات ولايةٍ عامّة ووطنية وعادلة وقريبة من المواطن تصل الناس وتتواصل معهم وتسمع منهم وترعى الإستثمار وتُحسّن مستوى معيشة الناس والخدمات المقدّمة لهم وتبتكر الحلول المناسبة لكلّ ما يُعيق التطور وتخفّف الوطأة على جيب المواطن المنهك من خلال رؤىً طموحة واستراتيجيات واضحة المعالم وخطط حقيقية لتحقيق التنمية وتقليل نسب الفقر والبطالة ، ولكن ذلك كله تبدّد وصار بعيد المنال في ظلّ الحكومات التي لا يوجد لديها برامج إلا إجراء التعديلات لترضية أكبر عددٍ ممكن من أصدقاء ومحاسيب واقتسام التعيينات في الوظائف العليا ، وصار لكلّ واحد شللٌ ومريدون وكأنهم يريدون لأنفسهم أن يصبحوا شيوخ طريقة ولكن بدون لفّاتٍ وعمائم .
اليوم أصبح طموح المواطن أقل بكثير مما كان يطلبه ويؤمّل فيه ، فلا أقل من أن تعرف الحكومة ما يلاقيه الناس من عنتٍ شديد في أي مراجعة لدائرةٍ حكوميّة لإنجاز أي معاملة مهما كانت بسيطة ، وأن تحاول الحكومة أن تكفّ عن عباد الله سطوة البلطجية والسماسرة والوسطاء.