أحيانا، يبدو صوت العقل غير قابل للتصديق، حين ينطلق التعاطي معه من تمترس قوي، كما لو أنه أيديولوجيا مقدسة، ترفض مجرد التعامل مع الأمر، أو أجندات لا تعترف سوى بـ"أمنيات" الأسياد.
على النحو السابق تم التعامل مع التحذيرات العديدة التي أشارت إلى وجود أجندات خارجية تحاول جاهدة العبث باستقرار هذا البلد، والنيل منه، وإشاعة الفوضى في كل شيء. حينها؛ خرج علينا "العقلاء" من كل حدب وصوب، وشككوا كثيرا بمعقولية تلك التحذيرات، واعتبروها "فانتازيا" غير جادة، حتى أن بعضهم اعتبرها "بروباغاندا دولة"، الهدف منها جعل الأردنيين يعيشون تحت وطأة هاجس الاستهداف، وأن بلدهم عرضة للاختطاف في أي لحظة.
وخلال ذلك الجدل الطويل، طور هؤلاء فرضية مريضة، مفادها أن كل من يخالف رأيهم، ولا يعزف على وتر أصحاب الأجندات هو بالضرورة صدى لصوت الدولة، ويساعدها في نشر روايتها لتخويف الناس، والطعن في نزاهة بعض الشخصيات أو المنظمات أو المؤسسات.
في مفهوم هؤلاء؛ أنت خائن لأنك تقول الحقيقة، ولأنك تعبر عن مخاوفك الحقيقية التي ترى انعكاساتها وتمظهراتها في كثير مما يدور حولنا اليوم. أنت خائن لأنك تخاف على بلدك من العبث الذي ينتشر في كل ما يحيط بنا، ومن الخراب الذي تنشره دول وأنظمة ومليشيات وعصابات.
في الماضي، كنا نحمّل الدولة مسؤولية كبيرة في تنامي عدم الثقة بين أجهزتها ومؤسساتها المختلفة وبين الشارع الذي كان يطالب بأن تتعامل معه الدولة بشفافية أكبر. لكن اليوم يبدو الأمر مغايرا تماما، فقد بادرت الدولة عن طريق مسؤوليها والإعلام إلى إطلاق التحذيرات الجدية من محاولات لأطراف مختلفة تعمل على مدار الساعة لاستهداف الأردن، وخلق ساحة فوضى جديدة تنضاف إلى الفوضى والخراب الذي يغطي المنطقة بأكملها، غير أنها لم تجد آذانا صاغية، ولا عقولا مفكرة، ولا نفوسا صافية، ليظل التشكيك هو سيّد الموقف، كما لو أنهم يقولون "لن نصدق حتى نرى الخراب بأعيننا"!
يجب أن نعي تماما بأننا نواجه تحديات خطيرة على حدودنا الشمالية الشرقية تتمثل في عصابات ومليشيات ودول تمارس تهريب المخدرات والسلاح، وهذا لا يمنع أن هناك خطرا كبيرا تمثله حدودنا مع الكيان الصهيوني، فلا يجوز لنا أن نقلل من أي خطر منهما، فعند الحديث عن سلامة الوطن ينبغي أن يوضع كل مصدر تهديد تحت المجهر، ولا يجوز لنا التعامي عن مصدر ما لأنه يتماشى مع أهوائنا وأجنداتنا ومصالحنا. باختصار؛ في عقيدة الانتماء والحرص على الوطن ليس هناك خطر مقبول وخطر غير مقبول!
نحن دولة لها وجودها الفعلي على الأرض، ومن حقنا أن ندافع عن أرضنا ووجودنا، وحماية شعبنا من حالة عدم الاستقرار التي تطيح بأمن وسلامة دول الجوار وشعوبها، وأيضا حمايته من أولئك الذين يمارسون أدوارا خبيثة على أرضنا، محاولين استهداف منظومتنا الداخلية.
نعم؛ هناك محاولات حثيثة لاستهداف الأردن، وما حدث من إجراءات أمنية في ماركا الجنوبية، والقويسمة لاحقا، يؤكد حقيقة الأجندات الخارجية بالتعاون مع بعض من يعتبرون أنفسهم أردنيين، وينبغي لكل أردني أن يدرك جيدا أن التحذير من هؤلاء لم يكن في يوم من الأيام عبارة عن رواية خيالية، وإنما واقع له ثمن كبير إذا لم تعمد الدولة وأبناؤها إلى تحصين حالتنا الوطنية، وتعزيز انتمائنا وقناعاتنا بأننا في بلد لم يسلمْ يومًا من أطماع الآخرين ومخططاتهم، ولن يسلمْ مستقبلا.
بالنسبة للإعلام المسؤول، سيبقى دائما في خانة الوطن، وسيظل يكرر التحذيرات عن الحالات الشاذة التي يرى فيها استهدافا لنا كشعب وأرض ومقدرات، حتى لو تم اعتبارنا "أبواقا للدولة"، ففي عرف العرب هذا ليس بالأمر الذي تأتي منه المذمّة، لكن الأبواق التي تصدح بمقولات الأعداء، وتساعدهم في تحقيق أهدافهم، ستظل ترتدي ثوب الخيانة، وستظل مذمومة للأبد.
الغد